مصر في تشاد.. طرق قارية وأسواق جديدة وعلاقات استراتيجية
السودان : الحاجة لتحويل خسارات حرب (ابنائه ) لاكتشاف موقعه الجيو اقتصادي
كتب : عمار عوض
شهد الاسبوع الماضي زيارة مطولة لوزير الخارجية المصرية الى تشاد بل تعتبر الاهم في سياق الأحداث وتبعات الحرب السودانية التي باتت تحيط بالمنطقة ، و صحيح أن الزيارة في شق القضايا السياسية موضع اهتمام البلدين بحثت جملة قضايا على رأسها السودان والإرهاب والتغيرات التي تجري في دول الساحل والصحراء.
فيما نجد ان الاهم واللافت في الزيارة المصرية هو الوفد الاستثماري الكبير الذي رافق وزير الخارجية بدر عبد العاطي إلى العاصمة انجمينا ، والذي قال عند لقائه مع الرئيس محمد ديبي أن الزيارة تأتي في ضوء تكليفات الرئيس عبد الفتاح السيسي لدعم تشاد والمساهمة في نهضتها التنموية بقيادة الرئيس “ديبي اتنو”، بحسب ما نقلت عنه الخارجية على صفحتها الرسمية ، ووتنويهه الى الإمكانات الكبيرة والخبرة التي تتمتع بها الشركات المصرية في إفريقيا التي تمكنها من تنفيذ مشروعات كبرى في العديد من المجالات الحيوية والبنية التحتية، والطاقة كما :”ثمن مذكرة التفاهم التي تم التوقيع عليها بين الجانبين لتنفيذ مشروع طريق الربط البري بين مصر وتشاد، مؤكداً على أهمية تنفيذ هذا المشروع في أقرب وقت ممكن، والذي سيعد شرياناً للتنمية بين مصر وتشاد، وسيحول تشاد إلى مركزاً تجارياً هاماً يربط بين البحر المتوسط وخليج غينيا” مرحبا في لقائه مع وزير النقل التشادي ب”توقيع البروتوكول المعني بدراسة وتنفيذ الطريق بين وزارة البنية التحتية وشركة المقاولون العرب خلال الشهر الجاري”.
وهنا مربط الفرس كما تقول العرب ، حيث يظهر أن (مصر الجديدة) بعد إعادة تشكيل الحكومة المصرية والتغيرات التي تمت في بعض مؤسساتها الراسخة قررت النظر بعمق أكبر للبعد الإفريقي وتأثيراته على الأمن القومي المصري في ظل حروب السودان وليبيا والقرن الأفريقي، وإثيوبيا ودول حوض النيل بالطبع من الناحية السياسية، و بالضرورة أن المصالح الاقتصادية المصرية في أفريقيا عديدة، و على رأسها (اللحوم الحية) و التي يأتي أغلبها من مناطق غرب السودان وشرق تشاد ، كما ان ربط المنتجات المصرية عبر الطريق القاري الذي تنوي القاهرة وصله الى تشاد ليفتح على دول خليج غينيا ينم عن بعد نظر لانه بالضرورة سيفتح أسواق جديدة لديها قابلية لتداول المنتجات القادمة عبر المتوسط أو البحر الأحمر أو المصنعة في مصر على سبيل المثال في قطاع الأدوات الكهربائية أو المرتبطة بالصناعات ومشاريع البنية التحتية .
لكن يظل السؤال الأهم كيف ستمد مصر الطريق الى تشاد الذي تنوي إقامته العام 2025 بحسب البيانات التي تناولت الانباء حول هذا الطريق ، ونجد ان الخيار الاول : ان يمر عبر أراضي الولاية الشمالية (درب الأربعين) ثم ينعطف الى تشاد من حدودها مع السودان قبالة منطقة (كوري) الغنية بالمعادن وخاصة الذهب، او عبر محور دنقلا – شمال دارفور ومن ثم عبر الحدود الى تشاد ليمر الطريق في الحالتين عبر الأقاليم الشرقية لدولة تشاد الى ان يقترن مع شبكة النقل التشادية الى العاصمة انجمينا ومنها إلى غرب تشاد.
ونجد أن الخيار الثاني أمام هذا الطريق القاري الهام هو أن يأتي عبر الحدود المصرية الى جنوب ليبيا ومنها الى شمال تشاد عبر منطقة كوري ايضا ويكمل طريقه عبر الأقاليم الشرقية في تشاد ومن ثم عبر الشبكة الداخلية إلى الغرب التشادي .
وعند النظر بناحية السودان نجد في الأخبار أن وزير النقل والصناعة المصري كامل الوزير وقع مذكرة تفاهم مع وزير النقل السوداني بتمويل من منحة مقدمة من الصندوق الكويتي للتنمية بقيمة 750 ألف دينار كويتي من أجل :
“دراسة البدائل المقدمة لمسار للربط بين الدولتين من أبو سمبل وحتى أبو حمد مروراً بوادي حلفا وذلك في ضوء طلب الجانب السوداني وبحسب البيان الرسمي بين مسؤولي البلدين- بمد نطاق الدراسة ليشمل خط (وادي حلفا/ أبو حمد) وذلك لتعظيم الجدوى الإقتصادية والإستفادة القصوى من المشروع”.
وتجدر الاشارة الى ان ترويجا عاليا صاحب خبر التوقيع على هذه الخطوة الاستراتيجية بالإشارة إلى اكتمال محطة (أبو سمبل ) التحويلية للقطارات ليخدم طريق الصادرات القادمة من منطقة البحر الأحمر أو تلك القادمة من مصر العليا .
آخذين في الاعتبار أن محطة (أبوسمبل التحويلية) التي اعلنت مصر عن اكتمالها لخدمة القطارات الكهربائية أو قطارات البضائع ستحدث ثورة في التبادل التجاري وذلك بحسب نقاشي مع بعض رجال الأعمال المصريين في مؤتمر رجال الأعمال السودانين والمصريين تحت رعاية الوزير كامل الوزير الشهر الماضي ، والذين اشاروا الى ان هذه المحطة ستكون بمثابة ممر لوجستي دولي يربط مصر والسودان عبر أبو سمبل –ابوحمد والذي سيعمل الى جانب ذلك بشكل رئيسي على نقل البضائع من وسط أفريقيا إلى جانب ربطها بمناطق اخرى مثل إريتريا وجيبوتي والصومال وجنوب السودان بالضرورة وأن فكرته الطموحة أن يصل عبر عبر شبكات النقل الافريقية الى جنوب افريقيا .
ومن هنا نخلص إلى أن مصر لديها رغبة حقيقية لزيادة حجم التعاون التجاري عبر توسعة خط الربط السككي الى العمق السوداني عند مدينة ابوحمد ما يسرع من حركة البضائع والنقل للصناعات ومشاريع البنية التحتية الواعدة في السودان الذي بالضرورة في وقت قريب ستحتاج الى اعادة اعمار بلد تحطم بالكامل في مركز اقتصاده و التجمع الحضري الأكبر في الخرطوم التي كان يسكنها نحو 12 مليون نسمة.
تجدر الاشارة الى ان حجم التبادل التجاري بين مصر والسودان بلغ 1.4 مليار دولار خلال العام 2023 بحسب بيانات الجهاز المركزي المصري للاحصاء
الذي كشف ارتفاع قيمة الصادرات المصرية إلى السودان لتسجل 979.9 مليون دولار خلال عام 2023 مقابل 954.3 مليون دولار خلال عام 2022 بنسبة ارتفاع قدرها 2.7%. فيما بلغت قيمة الواردات المصرية من السودان 386.9 مليون دولار خلال عام 2023 مقابل 505.4 مليون دولار خلال عام 2022 بنسبة انخفاض قدرها 23.4 %.
ومن نافلة القول ان الحرب الشاملة التي وقعت في السودان وهذه الطريقة الحادة في تقطيع شرايين الاقتصاد السوداني الذي سيشهد تغيرات رهيبة وعميقة وربما مخيفة لمن ينظر للأمر بصورة واقعية بعيدا عن الفايلات ، حيث قادت الحرب الأخيرة إلى توقف صادرات السودان من اللحوم الحية إلى دولة مثل مصر كانت تعتمد بشكل كبير للغاية على السودان وتحديدا دارفور وكردفان الذان كانا يرسلان مئات الالاف من رؤوس الماشية والابل سنويا إلى مصر وكذا الضأن الذي كان يسيطر على السوق في المملكة العربية السعودية والذي توقف هو الآخر تبعا لهذه الحرب التي فصلت السودان من مناطق إنتاجه الرئيس والمتميزه بالثروة الحيوانية في كردفان ودارفور الأمر الذي كان محور نقاش عميق بين أحد كبار السفراء السودانيين الذي جمعنا الاهتمام بالقرن الأفريقي وهو في طريقه لأحد المحطات الافريقية عند لقائنا مصادفة في بورتسودان قبل ايام ، و تطرقنا الى تأثيرات الحرب غير المنظورة في خضم هذه (اللخمة ) كما سميتها واتفاقنا بعدها على أن أكبر تأثير غير منظور لهذه الحرب هو قطاع صادرات الماشية والإبل والضأن التي مات منها الكثير أو تهب أو تغير اتجاه المتعاملين معها في الخارج لأسواق بديلة.
وطبعا من الصعب أن نلوم الغير على أخطائنا وإشعال حرب بوعي ام هي غيبوبة نخب سودانية معتادة، حتما ستكون اولى نتائجها وفق ما هو منظور ضياع اهم ميزاتنا الاقتصادية التنافسية عالميا (اللحوم السودانية الحية) لان مناطق انتاجها هي نفسها صارت (ارض المعركة) التي يتوقع ان تستمر طويلا وبالتالي يتوقع ان يستمر اغلاق سوق التصدير طويلا.
ويبقى الامل امام الاقتصاد السوداني بعد انتهاء فصول (كارثة الحرب) هذه ، ان هذا النوع من الثروات ليس ناضبا مثل البترول والذهب باعتبار ان السلالات ستحافظ على وجودها ويمكن استعادتها وتطويرها متى ما وقفت الحرب، كما انني مازلت مؤمنا بالحديث الذي ظللت اكرره الى زملائي الامريكان والاوربيون خلال تجوالنا في السودان(فبراير – نوفمبر) لتغطية الحرب واثارها ان التغير المناخي سيهدي السودان مناطق شاسعة جديدة للرعي في شمال السودان وولاية تهر النيل المتوقع تحولهم الى مناطق سافنا تشابه في طبيعتها كردفان وجنوب دارفور.
لكن من المهم على الدولة السودانية والقائمون على امرها ان يتم التفكير مليا و كثيرا و بطريقة استراتيجية تبدا من اليوم وليس انتهاء الحرب ، لجعل السودان مهيا ليكون معبر رئيسي للاسواق المغلقة في افريقيا عبر شراكات دولية وصناديق افريقية لاقامة مشروعات بعد دراسات تقود لتنفيذ شبكة طرق سريعة ، حيث لا يفهم المرء لماذا لا يكون هناك طريق من (اربع حارات مثالا) يربط شرق السودان مع اثيوبيا وارتريا،
وهو السؤال الذي ظل راتبا خلال تجوالنا في السودان ، و ما ظللت اضيف عليه (بل لماذا لا يكون هناك طريق مماثل او خط للسكة الحديد من الشمالية الى الفاشر
ان التخطيط السليم بتغيير واعادة رسم خارطة السودان الاقتصادية ، الذي كان الناس ينظرونه من ثورة ديسمبر التي انتهت بحرب لا نعرف حتى الان كيف سنخرج منها سالمين ، والتي يامل الناس لخروج السودان من رمادها معبرا سهلا لحركة التجارة الاقليمية عبر شبكة طرق قارية واسعة ومرنة في السياسات الجمركية، سيضيف يعدا جديدا للاقتصاد السوداني، اي كان شكل الدولة ومن يحكمها، وقطع شك من الناحية الاستراتيجية سيحقق ذلك اكبر قدر من اصحاب المصلحة في استقرار السودان ليس على مستوى الداخل فحسب بل من الخارج الباحث عن اسواق جديدة وطرق امنة للتجارة ، والى ذلك الوقت لا يسع المرء الا ان يشكر الوزير المصري كامل الوزير على عمله وافكاره التي جعلت مثل هذا النقاش والحديث ممكنا، ونحن (قدامنا الصباح) بالتاكيد.