تنظره معارك دبلوماسية عاتية في الاتحاد الافريقي
السودان بين دفء الفيتو الروسي والتقارب الامريكي لانهاء الحرب
استعادة العضوية وانتخابات الاتحاد الافريقي اولوية والحق في المياه و(التعاون) الاقتصادي طريق نجاة
كتب : عمار عوض
ظل السودان في عين العاصفة الأسبوع الماضي ما بين الشرق والغرب من نيويورك حيث الفيتو الروسي الى بورسودان التي تقاطر اليها المبعوثين الدوليين ، فيما ينتظر قاربه أن يعبر بين أمواج عاتية تضرب مباني الاتحاد الافريقي ومنظمة ايقاد وطموحات القيادة لعموم أفريقيا وخاصة منطقتنا حيث القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
في الوقت الذي تقدمت فيه بريطانيا بمشروع قرار داخل مجلس الامن والذي سعت من خلاله الى مخاطبة نداءات المنظمات والمجتمع البريطاني بضرورة ان يكون هناك موقف اذاء هذه الحرب الشرسة والملئية بالانتهاكات من كافة الاشكال في ارض السودان التي كانت يوما تحكمها بريطانيا ما جعلها حاملة القلم في قضايا السودان كافة في مجلس الامن ، وهي نفس الارض التي تحاول ان تكون لندن حيالها مرنة جدا وهي تعرف ان خلاصة هذه الحرب ستوضح الى اي درجة سيكون نفوذها قائما ، لذا حاولت قدر الامكان ان يكون مشروع قرارها مرنا سلسا يحافظ للحكومة السودانية وممثلها المجلس السيادي ان يحصلا على الاعتراف اللازم بوصفها (الحكومة السودانية) في مشروع قرارها الذي ادانت فيه الدعم السريع وطالبته في منطوق القرار بوقف هجماته على الفاشر ولكنها اصرت على ايراد نص يدعو للامتثال والتعاون مع الاتحاد الافريقي ، وهو ما رات الحكومة السودانية على لسان رئيسها الفريق اول عبد الفتاح البرهان انهم رفضوا القرار لانه (يمثل خدشا للسيادة الوطنية) وهو نفس المدخل الذي وسعت فيه روسيا وهي تستخدم حق النقض الفيتو للمرة الاولى الذي حولت فيه روسيا (خدشا للسيادة ) الى محاولات عودة الاستعمار والهيمنة واخرجت من الاضابير السوفيتية كل ادبيات منازلة الغرب خلال الحرب الباردة ولكن هذه المرة من داخل قاعة مجلس الامن ، ما جعل الوزير البريطاني يغضب ويكيل لها من جراب حقوق الانسان وعدم مبالاة روسيا بالارواح البشرية والكارثة الانسانية.
عند محاولة النظر بكل تجرد نجد أن مشروع القرار البريطاني كان مخففا وإيجابيا في كثير نقاطه عند الاعتراف بالحكومة وإدانة الدعم السريع وإلزامية مقررات منبر جدا ، كما انه ايضا كان به سرداب مغلق يمكن أن يفتح و يقود يوما ما لإلزام السودان بالتعاون مع ما يقرره الاتحاد الافريقي ، كما أنه يعبر بشكل او بآخر عن رغبة بريطانيا بقاء نفوذها على السودان حاضرا في أذهان الجميع بما في ذلك رجال الكرملين ووزارة الدفاع الروسية الذين يبدو أنها تأكدت من خطورة وجودهم وتحركهم الفاعل على الأراضي السودانية او ساحل البحر حيث مقر الحكومة والقاعدة الروسية المرتجاة من موسكو والتي امكانية تحققها فقط تقلق رجال الحكومة البريطانية في لندن .
وعند توجيه البصر الى دوافع روسيا واستخدامها الفيتو وحشد خطبتها بأدبيات ومواقف ربما تعجب الإنسان من الوهلة الأولى وهي تتحدث عن ضرورة عدم (الهيمنة) والروح الاستعمارية تجاه السودان ، والموقف المتناقض للغرب عموما حيال الحكومة الإسرائيلية التي ترك لها الحبل على الغارب في قطاع غزة بينما تثور الثائرة على السودان ، وأن الحل يكمن في الداخل وأن تضع يد المبادرة بالحلول على يد الحكومة السودانية لتعين في التنفيذ لا لتجبر عليه ، ولم ينسى كاتب الخطبة الروسية في مجلس الأمن أن يخاطب الجالسون في (المساطب الشعبية) من السودانيين بأن يكيل لهم السباب الى الجالية السودانية في بريطانيا في اشارة الى قيادات تقدم و حمدوك الذين كانوا في تشاتم هاوس ، ولم ينسى كاتب خطبة النقض من أن (يلاغي) العامة من السودانيين بإعادة تصويب اتهام الاتفاق الاطاري وبعثة يونتامس بأنهما كانتا تعبيرا عن الفشل الغربي الذي ساهم في اشعال الحرب .
وعند اعادة البصر كرة اخرى على الموقف الروسي نجد انه ايضا اهل لغير التحرر من الهيمنة الاستعمارية ، حيث تسعى موسكو وتعمل بالفعل ليكون السودان تاج مسبحتها الافريقية التي تبدأ من مالي الى بوركينا فاسو مرورا بالنيجر وافريقيا الوسطى وصولا الى النقطة الاستراتيجية على البحر الاحمر حيث تريد ان ترابط سفنها ليس لانزال معدات مشاريع التنمية وتحرير الاقتصاد السوداني ليدور بحرية أينما يدور خاصة هناك عند مطاحن (الكرتة) الذهب في ولاية نهر النيل الذي ظل طريقه سالكا الى روسيا ما حدا ببعض الصحف الغربية التحدث علانية عن ان بوتن خاض حربه ضد اوكرانيا ب(ذهب السودان)، وهذا تاكيد على ان الفيتو الروسي كان تعبيرا عن محاولات صارمة للنفوذ الذي تحقق لها في غياب الوجود والوصل الغربي الامريكي من زمن الرئيس الاسبق عمر البشير ظلت فيها روسيا حليفا واعدا ومجربا لجنرالات الجيش السوداني او حتى في سنوات الحرب الاخيرة عندما اخلى السفراء الغربيين اراض السودان وتسيدت روسيا اكثر بقرارها ببقاء سفارتها في الخرطوم عاما كاملا قبل ان تنقل الى بورسودان والتي فور ان وصلها السفير اروسي صرح لوكالة تاس ساخرا من مغادرة السفراء الغربيين وواصفا اياهم بما يشبه الجبن والخوف ، بينما راى السفير الامريكي الاسبق في السودان ثيموني كارني (اخلاء السفارات وخروج الدبلوماسيين كان اكبر خطا استراتيجي تقع فيه الحكومة الامريكية”.
إذن الذي حدث في جلسة مجلس الأمن من حيث( الفيتو) الروسي الذي وصفته بريطانيا ب(العار) ما هو إلا (صراع على المصالح والنفوذ على السودان) شجرة افريقيا العتيقة التي يشقها النيل ويحدها البحر الأحمر ويكللها الذهب و الموقع الجيوساستراتيجي .
في بورتسودان كانت امريكا والمانيا والنرويج وسويسرا يسعون بطرقهم الخاصة محاولة اعادة السودان للدوران بعيدا عن روسيا التي تغدق الأرض بالأسلحة مقابل الذهب والنفوذ والوجود الموعود على البحر الاحمر، ويقدمون في سبيل ذلك الاعتراف بالقيادة السودانية ممثلة في (رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح برهان) كما وصفه المبعوث الأمريكي توم بيريليو في صفحته الرسمية بعد لقائهم الاخير ، وهو يصف اللقاء تارة بـ المثمر والفعال فيما نقل اعلام السيادي عنه وفق لسان السفير عمر دهب أنه سلم البرهان خارطة طريق لإنهاء الحرب وأن الرئيس وافق عليها ولم ينسى بيرليو الإشادة بالشركاء من المعونة الامريكية ومنظمات الامم المتحدة التي تستعد لانفاق ما يقارب 300 مليون دولار مع البنك الدولي عبر مشاريع في ثلاث ولايات سودانية ، ما يشير بوضوح ان واشنطن وجهت مقود سيارتها التي تحمل (جذر ) للدوران في اتجاه التعاون مع الخرطوم – بورتسودان ولكن واضح ان عينها ما تزال شاخصة نحو مبنى الاتحاد الافريقي حيث تقبع يدها تعمل وهي تحمل (العصا) بعيدا عن طائلة الدب الروسي .
وهنا يتضح أن المعركة الدبلوماسية لمحاولات الضغط التاثير على القرار السوداني لن ينتهي بانتهاء مراسم جلسة الأمن حيث بدأت التحركات في أروقة الاتحاد الافريقي الذي يستعد للخوض في معارك حاسمة بداية من انتخاب رئيس جديد لمفوضية الاتحاد الإفريقي وقضايا الصراع الإثيوبي – الصومالي/ الاريتري في القرن الأفريقي والميناء على أرض الصومال (غير المعترف بها) ، بينما كان السودان يأمل في أن يعود خلال هذه (المعمعة) وقبيل الفيتو الروسي الذي صحى مواجد الحرب الاوكرانية وما يمثله الانتصار الروسي فيها من تهديد ليس للاتحاد الأوروبي ولكن الجزيرة البريطانية التي لأول مرة تدخل في صراع مكشوف مع الاتحاد الروسي في أفريقيا ، حيث كانت موسكو طوال السنوات الماضية تقطف من بستان فرنسا الفرانكفونية وهذه المرة الاولى التي تمتد فيها الايادي الروسية الى زهرة أزاهير بريطانيا في افريقيا .
وعند وضع الحالة السودانية في الاتحاد الأفريقي تحت مجهر الفحص الدوري ، نجد أن السودان سيكون مضطرا للتعامل مع قضايا (شرعية حكومته) بغية رفع اسمه عن تجميد العضوية في الاتحاد ، وان يتعامل في نفس الوقت مع الدعوات التي بدأت تدب في اروقة الاتحاد الافريقي في اديس ابابا حيث حملت الأنباء عن تحركات يقوم بها سودانيين منهم سياسيين نشطين في جبهة (تقدم) وناشطين مجتمع مدني ل(دعوة الاتحاد الإفريقي لتفعيل المادة الرابعة من دستوره التي تتيح التـ.دخل في أي دولة عضو حال وقوع جرائم دولية) وهي العصا التي سينشغل السودان بإبعادها عن وجهة خلال جلسات هيئات ومؤسسات الاتحاد الافريقي بدلا عن ان يوظف طاقته لإقناع الجميع بدعوى رفع تجميد عضويته واستعادة فاعليته في منظمة الإيقاد التي يسعى رئيسها للدورة الحالية دولة جيبوتي للفوز برئاسة مفوضية الاتحاد الإفريقي في مواجهة مرشح كينيا لرئاسة الاتحاد الافريقي والذي يحظى بدوره بدعم اثيوبيا ويوغندا ومن خلفهما من يرون ضرورة اعادة محاولة إدخال قوات افريقية للسودان تحفظ الاستقرار وتفصل المطامح الروسية من التحقق بالهيمنة كليا على السودان لصالح ان يهيمنون هم على مستقبله لاحقا.
لكن الثابت أن السودان يراد له أن يكون في كماشة داخل أروقة الاتحاد الافريقي ما بين مسايرة الرؤى والتصورات الغربية لإنهاء الحرب وبين رغبته في استعادة عضويتها في الاتحاد وتصدره مشهد صراعات دول الإيقاد وطموحات قادتها في ترؤس مفوضية الاتحاد الافريقي، وهي كماشة تحفها اشواك الاشواق الروسية في أراضي وبحر السودان التي حصنتها ب(الفيتو) ، وجمر الطموحات الاثيوبية واليوغندية التي أتت حمراء تلهب بعد اجازة دول الحوض مبادرة حوض نهر النيل التي تهدد حد الإلغاء في الامتيازات التاريخية للسودان في مياه النيل وفوقهما صخرة مصالحه المشتركة مع السعودية ومصر في سلامة التجارة في البحر الاحمر وما يمكن ان يمثله الصراع الاثيوبي – الصومالي /الارتري/الجيبوتي حال تحوله الى مواجهة مسلحة على ارض الصومال.
الطريق السالك والخالي من الألغام يتمثل في ما أعلنه السفير عمر دهب بأن رئيس السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان وافق على (خارطة طريق) لإنهاء الحرب خلال لقائه مع المبعوث الأمريكي توم بيرليو وهي نفس الخريطة التي جاء لفظها في ثنايا لقاء نائبه مالك عقار مع المبعوث الألماني وكذلك عند لقاء نائبة في الجيش الفريق أول شمس الكباشي عند لقائه مع المبعوث السويسري .
آخذين في الاعتبار أن البرهان في اليوم التالي للقائه مع توم بيرليو قال إن (إنهاء الحرب يبدأ بالخروج من الأعيان المدنية والتجمع في معسكرات تدخل بعدها الاغاثة وتنداح في كل السودان كما جاء في كلمته في المؤتمر الاقتصادي واضعا تشكيل حكومة مهنية مدنية والحوار السياسي الشامل في صلب خطة إنهاء الحرب ، التي طار بها المبعوث الأمريكي الى دولة جيبوتي حيث مقر الايقاد حيث يتوقع ان تظهر نتائج كل ذلك في الايقاد.
لكن هذا لا ينفي ان الطموحات الاثيوبية / الكينية الاقتصادية والسياسية ومن خلفهم النخب السياسية ومن فوقهم المعاون الخارجي في الامارات لن يقفوا مكتوفي الايدي حيال انتخابات مفوضية الاتحاد الافريقي او عند طرح رفع تجميد عضوية السودان في الاتحاد الافريقي ، حيث سيحاول الجميع ابقائه في حالة عدم شرعية حكومته افريقيا او بالمقابل الحصول منه على تنازلات في ما يخص مياه النيل والوجود على البحر الاحمر ، ومن الصالح ايضا ان يتفاعل السودان ايجابيا مع هذه المطلوبات، باعادة طرح استخدام ميناء بورسودان لصالح اثيوبيا مقابل تراجع اديس ابابا عن الاعتراف او الاستيلاء على ميناء جمهورية ارض الصومال ، او دفع اديس ابابا نحو الحل الوسط باستخدام ميناء تاغورا في جيبوتي ، مع عدم التفريط باي شكل في الحقوق المائية للسودان لانها عنصر سيادة وبقاء للاجيال القادمة، وان يطرح خيار التعاون الاقتصادي العابر للحدود بين دول حوض النيل الازرق (مصر- اثيوبيا- السودان) عبر شراكات جديدة ، على ان يكون الثمن لذلك ضمان فوز جيبوتي برئاسة مفوضية الاتحاد الافريقي حتى لا يتحول الى اداة في الايادي الاثيوبية للتراجع عن ما ستلتزم به بجهة خطة فك الاشتباك عبر التعاون الاقتصادي ، او اعاقة مسير السودان لاستعادة شرعيته في الاتحاد الافريقي ، او تخريب خطته لوقف الحرب التي بدا السير فيها مع واشنطن واوروبا والامم المتحدة تحت غمامة (الاغاثة التنموية) مع البنك الدولي بقيمة 300 مليون دولار بدلا من منهج (اغاثة الطعام والدواء) السابق.
بالطبع الايام القادمة ستكشف الى اين ستقود الأحداث خطى السودان الذي أصلي له كثيرا بأن يستمر في سياسة العمل مع الجميع لصالح مصلحة السودان وشعبه وان لا يصرفه النوم في عسل الفيتو الروسي عن طبيعة المعارك القادمة .