منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي في عاصمة جنوب أفريقيا بريتوريا وثمة تحالفات جديدة تتشكل وأخرى قديمة تتفكك في منطقة القرن الأفريقي، بصورة أثارت كثيراً من الجدل بين المتخصصين في شؤون هذه المنطقة، لا سيما في ما يتعلق بمدى تجذر هذه التحالفات وقدرتها على الصمود، وما إذا كانت نتاج رؤى استراتيجية قد تسهم في استقرار الإقليم ككل، أم خططاً تكتيكية تحاول الالتفاف على تداعيات الحرب التي استمرت لعامين، وخلفت مآسي إنسانية وخسائر بشرية ومادية.
ولعل أهم مظاهر تفكك التحالفات السابقة، يتعلق بقوتين أساسيتين حاربتا إلى جانب الجيش النظامي الإثيوبي، وهما قوات أمهرة، ووحدات الجيش الإريتري، إذ إن إنهاء الحرب بصورة أحادية من طرف الحكومة المركزية في أديس أبابا، من دون التشاور مع حلفائها العسكريين، قد أحدث شرخاً في العلاقات الوطيدة التي كانت تربط إثيوبيا بالقوتين.
كما أدى البند الخاص في اتفاقية بريتوريا، حول احتكار السلاح تحت مظلة وزارة الدفاع الإثيوبية، ونزع سلاح الميليشيات المسلحة، إلى مواجهة معلنة بين الحكومة الإثيوبية بقيادة آبي أحمد، وقوات إقليم أمهرة المعروفة بـ”فانو”، حينما رفضت الأخيرة هذا المطلب، معتبرة أنه يتناقض مع روح الدستور الإثيوبي الذي يسمح بتشكيل قوات خاصة في كل إقليم فيدرالي إثيوبي، بغرض حماية الأمن والسلم، فضلاً عن أن الـفانو لم تكن طرفاً في المعاهدة الموقعة في بريتوريا، بالتالي ليست معنية ببنودها، مما صعد الموقف بينها وبين أديس أبابا التي أعلنت أنها ستحارب أي قوة مسلحة لا تتبع وزارة الدفاع الوطني.
على المستوى الآخر، وجهت إريتريا انتقادات لاذعة لموقف الحكومة الإثيوبية، حول ترتيبات إيقاف الحرب. واعتبر الرئيس الإريتري أسياس أفورقي بمقابلة تلفزيونية في يناير (كانون الثاني) 2023 أن اتفاقية بريتوريا “مشروع أميركي أعد على عجل في واشنطن، وطلب من الطرفين التوقيع دون مناقشة”، ووجه أفورقي انتقادات قاسية لـحليفه السابق آبي أحمد، معتبراً الاتفاقية مجرد معاهدة استسلام للإرادة الأميركية.
بدوره صعد رئيس الوزراء الإثيوبي من حدة الصراع بطرحه مشروعاً جديداً أمام البرلمان الإثيوبي حول ما سماه “أحقية إثيوبيا التاريخية للحصول على موانئ في البحر الأحمر”، معتبراً استقلال إريتريا عام 1993 “خطأ تاريخياً حرم بلاده من الإطلالة على البحر الأحمر”، وهي الخطوة التي اعتبرها مراقبون لشؤون المنطقة بمثابة القشة التي قصمت ظهر العلاقة الوطيدة بين أديس أبابا وأسمرة، إذ قادت إلى شبه “تجميد للعلاقات الثنائية”، أو ما يمكن تسميته “الأزمة الباردة”.
ولم تتوقف محاولات أديس أبابا للحصول على المنفذ البحري، على مستوى التصريحات التي أدلى بها رئيس وزرائها في البرلمان، بل مضى إلى توقيع “مذكرة تفاهم مع إقليم صوماليلاند” في الأول من يناير 2024 تنص على حصول إثيوبيا على منفذ بحري في الشواطئ الصومالية، مما أدى إلى تفجر صراع معلن بين مقديشو التي عدت الخطوة انتهاكاً للسيادة الصومالية، وبين أديس أبابا التي تدافع عن المذكرة باعتبار أنها موقعة مع جهة كثيراً ما أبرمت اتفاقيات مع دول أخرى، على رغم عدم حصولها على الاعتراف الدولي كدولة مستقلة.
بناء وفض التحالفات
يرى المتخصص في الشأن الإثيوبي محاري سلمون أن “مسألة بناء وفض التحالفات تاريخياً في القرن الأفريقي، في الغالب تخضع لحسابات خدمة الأنظمة الحاكمة، وحاجاتها الآنية، بدلاً من استشرافها للمصالح الجوهرية لشعوب المنطقة، كما أن للعامل الخارجي دوراً رئيساً في قيامها، ففي ظل غياب نظم ديمقراطية تستمد شرعيتها من التفويض الشعبي، تسعى الأنظمة القائمة إلى عقد تحالفات تعتمد بالأساس على الدعم الخارجي لتحقيق حلم الاستمرار في السلطة”. ويشير إلى تحالف النظم الملكية الإثيوبية، حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي مع الولايات المتحدة الأميركية، ورعاية مصالحها مقابل دعم الأخيرة لمطالب أديس أبابا التنموية والإقليمية، بما في ذلك حقها في ضم المستعمرة الإيطالية السابقة إريتريا لأراضيها السيادية.
في حين اعتمد الصومال آنذاك على التحالف مع الاتحاد السوفياتي، في مواجهته ضد إثيوبيا لاسترداد إقليم الصومال الغربي (أوجادين)، إلا أن سقوط نظام الملك هيلي سلاسي، عبر انقلاب عسكري قادته نخبة من الجيش الإثيوبي، قد أعاد بناء التحالفات الدولية بصورة جدية، إذ اعتمد النظام الجديد على النهج الشيوعي لإدارة الدولة بالتالي فض التحالف مع الولايات المتحدة، واعتمد على الاتحاد السوفياتي والنظم الاشتراكية الأخرى.
وينوه سلمون بأن سقوط النظام العسكري على يد “ثوار تيغراي” ذوي التوجه الماركسي تزامن مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، بالتالي أعيد تشكيل التحالفات من جديد مع الولايات المتحدة الأميركية والنظم الغربية. ويشير إلى أن العلاقات الإريترية – الإثيوبية، وإن بدت في أوجها في بداية التسعينيات من القرن الماضي، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى النقيض عند اندلاع الخلاف الحدودي بينهما، والذي أدى إلى حرب مفتوحة استمرت لمدة عامين (1998/2000)، ثم قطيعة دبلوماسية استمرت لعقدين من الزمن.
ويوضح المتخصص في الشأن الإثيوبي أنه بخروج الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي من السلطة المركزية في أديس أبابا، ووصول آبي أحمد، عادت العلاقات بصورة مثيرة للاهتمام بين أسمرة وأديس أبابا، مع تجاهل مواضع الخلاف التي ظلت قائمة لعقدين من الزمن بين العاصمتين، بما فيها ترسيم الحدود وتطبيق اتفاقية الجزائر، لمصلحة تحالف جديد وقوي يقوم على قاعدة “العدو المشترك” المتمثل في جبهة تيغراي.
ويضيف سلمون أن هذه التحالفات قائمة لخدمة مصالح السلطتين، مشيراً إلى أن أهم تمظهرات هذا الواقع يتمثل في حرب تيغراي التي اندلعت في نوفمبر 2020، وعلى رغم أنها حرب داخلية، فإن أديس أبابا استعانت بالقوات الإريترية، بغرض تحجيم قدرات جبهة تحرير تيغراي، وهي أول حرب في تاريخ إثيوبيا تستعين فيها الدولة بجيش أجنبي للقضاء على تسميه “تمرداً داخلياً”، وحملة “لإنفاذ القانون”.
قاعدة العدو المشترك
بدوره يرى المتخصص في شؤون القرن الأفريقي عبدالرحمن أبو هاشم أن تاريخ التحالفات في دول القرن الأفريقي، يشير إلى اعتمادها على أسس تكتيكية آنية، وليس على استراتيجيات قريبة أو بعيدة المدى، إذ يسعى كل طرف لتعزيز قدراته ومواقعه داخل صراعات الإقليم والعالم. ويضيف أنه “بملاحظة خريطة المتصارعين الرئيسين في إثيوبيا نجد أن الأمهريين الذين حكموا إثيوبيا لقرن من الزمن (حتى عام 1991) يسعون إلى استعادة ملكهم وسيطرتهم على إثيوبيا وإريتريا وحتى الصومال، إضافة إلى سعيهم لاسترداد مناطق زراعية سودانية في منطقة الفشقة، ما يعني أن تحالفهم مع نظام آبي أحمد والنظام الإريتري، في حرب تيغراي الأخيرة، ظل مبنياً على محاربة (العدو المشترك)، ثم بعد توقيع اتفاق بريتوريا انفض تحالفهم مع المركز، بينما أبقوا على تحالفاتهم مع أسمرة لمواجهة نظام آبي أحمد”. ويضيف، “نجد كذلك على الجانب الآخر تقف جبهة تيغراي التي تحلم بإقامة دولة إثنية مستقلة، بعد ضم أراضٍ شاسعة من إقليمي أمهرة والعفر الإثيوبيين وأجزاء من الشريط الساحلي الإريتري، مما يضعها في خانة التصادم المزمن، مع جيرانها داخل إثيوبيا وفي الإقليم”.