كتب الكثير عن حرب السودان، وإمتلأت الصحائف بالتحليلات والاستنتاجات والتقييمات، والهرطقات أيضا، بينما الحرب تمد لسانها إلى الجميع وتواصل قتل السودانيين وتدمير بنيات البلاد الأساسية، بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث من حيث البشاعة والتمثيل بأجساد المواطنين، وخاصة النساء. وكثيرا ما تمر على المرء خاطرة وكأن الحرب شنت، من أي طرف كان، انتقاما من الشعب السوداني على احتجاجاته وانتصار انتفاضاته ضد الظلم ومن أجل مستقبل الحرية والسلام والعدالة، وأن قادة الحرب وممسكي زمامها لا يملكون أدنى ذرة تعاطف مع الإنسان السوداني. قبل أيام، كتب لي أحد الاصدقاء من أبناء مدينة ودمدني قائلا: « مدينة ودمدني ومناطق ولاية الجزيرة المختلفة استطافت نسبة كبيرة من مواطني الخرطوم القادمين من الحرب، كما كانت تعتبر مركزا للعمليات الإنسانية الخاصة بالغذاء عبر صندوق الغذاء العالمي، ومركزا لمشروع الجزيرة، أكبر مشروع زراعي في العالم تحت إدارة واحدة، ومقرا لهيئة البحوث الزراعية التابعة للمشروع، وبنك الجينات النباتية الذي يعد إرثا وذاكرة معرفية لا تعوض إذا أصيب بمكروه، ومع ذلك، وإثر هجوم قوات الدعم السريع على المدينة وقرى الجزيرة، دمر المشروع والهيئة والبنك، ودمرت مباني جامعة الجزيرة ونهبت مخازن منظمة الغذاء العالمي وتدمير المدخلات الزراعية ومخازن المبيدات والأسمدة، وبالطبع إضافة إلى عمليات القتل الواسعة والإذلال للسكان البسطاء ونهب ممتلكاتهم وإجبارهم على إخلاء منازلهم في موجات نزوح وفرار جماعي كبيرة… وكل ذلك بدون أي مبررات أو وجود أهداف عسكرية…فما هو السبب؟» لقد كان واضحا، منذ العام 2019، أن الحرب آتية لا ريب فيها. ووحده قصير النظر هو الذي يندهش لانفجارها. فالبلاد آنذاك أصيبت بحالة من السيولة السياسية بسبب ما تمكن من النخب السياسية والعسكرية من تشظ وانقسام وتوهان وعدم الاعتراف المتبادل، وهو وضع ولغت فيه النخب حد ارتكاب جريمة الحرب في حق الوطن، والجريمة تستوجب المساءلة وإعمال العدالة.
أما السبب الرئيسي لاستطالة أمد الحرب، فأعتقد هو توهم كل طرف بأنه سيحسمها بالضربة القاضية، في حين هذا غير وارد أصلا، إضافة إلى غياب الرؤية الواضحة حول كيفية إيقافها عبر التفاوض. فمنبر جدة لم يضع على مائدة التفاوض رؤية محددة لكيفية الوقف الدائم لإطلاق النار ووقف الحرب، واقتصر نشاطه على الهدن المؤقتة للسماح بمرور المساعدات الإنسانية، وحتى هذه لم يكتب لها النجاح. أما الاتحاد الأفريقي ومجموعة الإيقاد، فتوقفا عند المسائل الإجرائية والتنظيمية، وآخرها تشكيل الهيئة رفيعة المستوى، إضافة إلى خارطة الطريق التي اقتصرت على عناوين عامة تبدأ بالتشديد والتأكيد والتطلع…الخ، دون أي رؤية حول كيفية وقف الحرب. ومن المهم جدا تكرار القول بأن مبادرة الإيقاد لم تنجح في إيقاف حرب الإنقاذ مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل دكتور قرنق، إلا بعد أن انتظمت المفاوضات بين الحكومة والحركة على أساس الرؤية التي وفرها إعلان مبادئ الإيقاد في 20 مايو/أيار 1994. صحيح أن تلك الرؤية صاغتها دول الإيقاد وقدمتها جاهزة إلى الطرفين ليوقعا عليها، لكن لابد من التشديد على أنها أبدا لم تكن من وحي بنات أفكار علماء السياسة الدوليين والإقليميين أو خبراء الإيقاد بقدر ما كانت إعادة صياغة وترتيب، وضبط وتدقيق، للأطروحات المتناثرة في أدبيات الحركة السياسية السودانية، وخاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان.
السبب الرئيسي لاستطالة أمد الحرب هو توهم كل طرف بأنه سيحسمها بالضربة القاضية، في حين هذا غير وارد أصلا، إضافة إلى غياب الرؤية الواضحة حول كيفية إيقافها عبر التفاوض
عام على اندلاع القتل والدمار، دون أن تبرز أي رؤية لوقفهما، وكل المتناثر عبارة عن خطوط عامة وكأن المقصود بها مجرد إبراء الذمة فقط. في حين، مع كل صباح جديد من صباحات عام الحرب، يتطلع الشعب السوداني إلى قواه المدنية من أحزاب ومنظمات وصناع الرأي وقيادات المجتمع والزعامات الشعبية والأهلية والروحية، علّهم يستجيبون وينفعلون عمليا مع هذا التطلع، فيضاعفون سعيهم لتحقيق أمل إسكات البنادق وبسط السلام. وتظل قناعتي الراسخة، بأن الرؤية لوقف الحرب لن تأتي من منبر جدة أو منابر الإيقاد أو مؤتمر باريس، وأن القوى المدنية والسياسية السودانية هي وحدها المؤهلة لاجتراح عناصر هذه الرؤية، وأن التوافق حولها هو الأساس لانتظام هذه القوى في منبر يوحدها أو ينسق فيما بينها. ولعل من الضروري الإشارة إلى أن تسهيل التوافق حول هذه الرؤية يقتضي التوافق قبلا على مجموعة من الحقائق، منها أن هذه الحرب لا يمكن حسمها عسكريا، ولن ينتصر فيها طرف على الآخر، لكن قطعا الوطن وشعبه هما الخاسر الوحيد. وأن الحرب خلقت واقعا جديدا يجب أن يغير في طريقة تعاطينا مع تفاصيل الأحداث وتداعياتها، وهذا الواقع الجديد له مستحقاته العملية التي يجب أن تبحث وتتمعن في الأسباب الجذرية للحرب، بدءا من أن الدولة السودانية فشلت منذ استقلالها في التعبير عن كافة مكوناتها الوطنية الأمر الذي أدى إلى تمكن الأزمة العامة في البلاد بتجلياتها العديدة، والتي من بينها استدامة الحلقة الشريرة والنزاعات واشتعال الحروب التي كانت حتى وقت قريب تستوطن الأطراف قبل أن تأخذ منحىً جديدا وصادما باندلاعها في عاصمة البلاد في 15 أبريل/نيسان الماضي، ثم إنتقالها إلى الجزيرة. وأن من نتائج ذلك المباشرة إضعاف الدولة السودانية وعدم قدرتها على توظيف كل مكوناتها السياسية والاجتماعية والثقافية للتوافق على مشروع وطني نهضوي ينتشل البلاد من وهدتها التي ظلت فيها منذ فجر إستقلالها.
أما أسئلة الرؤية لوقف الحرب، وكما كررنا ذلك كثيرا، فتتضمن طبيعة الحرب وآليات إيقافها، وماهو دور المجتمع الدولي والإقليمي في إيقاف الإقتتال، وأين هو موقع العدالة والمساءلة بالنسبة لجريمة اندلاع الحرب وما صاحبها من انتهاكات، وما هو جوهر العملية السياسية المفترضة، وهل لقيادات طرفي القوى العسكرية أي دور فيها، وما هو مستقبل قوات الدعم السريع وكل الحركات والميليشيات المسلحة الأخرى…وغير ذلك من الأسئلة الرئيسية.