التئام منبر المفاوضات لبذل كل الجهود الممكنة لتحقيق وقف إطلاق النار في السودان، هو المطلب الرئيس والأساسي، والذي نتمنى أن يتحقق الآن قبل أي لحظة تالية. ولكن، بالنظر إلى تفاقم الوضع الكارثي المرعب في البلاد، حيث لم يعد استمرار إطلاق النار هو وحده سبب الموت الجماعي الذي يخسف بأعداد كبيرة من السكان المدنيين وخاصة الأطفال، وإنما سببه أيضا تفشي المجاعة والأوبئة وانعدام الغذاء والدواء، أرى أن الأولوية العاجلة اليوم، والتي يجب أن تُركز الجهود حيالها، هي التصدي لهذه الكارثة الإنسانية.
وكما شددنا في مقالنا السابق، فإن المطلوب من وكالات الأمم المتحدة ومنظومات الإغاثة العالمية، ليس الارتقاء بجهود الإغاثة المتعلقة بهذه الكارثة إلى المستوى الذي تعكسه الأرقام المخيفة والأخبار المرعبة عن معاناة السكان وصرخات طلب العون والإغاثة المستمرة والمتصاعدة والتي تتضاعف يوميا فحسب، وإنما المطلوب أن تعلن الأمم المتحدة ووكالاتها المعنية حالة المجاعة الحادة في السودان على المستوى القومي، والتعامل مع الوضع في البلاد على هذا الأساس، ووفق البروتوكول المعتمد من هذه المؤسسات الأممية. فكل المؤشرات والأرقام تتطابق مع معايير حالة المجاعة الكارثية في السودان من المستوى الخامس كما تصنفها الأمم المتحدة.
ومع تمدد الاقتتال واستمرار العالم في عدم التعامل بالمستوى المطلوب مع هذا الوضع الكارثي في السودان، تتفاقم معاناة المدنيين والأطفال، ليس في مناطق القتال وحدها بل في أنحاء البلاد كافة، خاصة وأن تقارير المؤسسات الأممية تقول إنه مع اقتراب نهاية الربع الأول من العام، نجد أن ما تم توفيره من الاحتياجات المادية اللازمة في مجالي التغذية والأمن الغذائي هو فقط 1.7٪ من المطلوب بنسبة عجز تبلغ 98.3 ٪، فيما تتوفر نسبة 3.6٪ فقط من الميزانية اللازمة لتغطية الاحتياجات الإنسانية الكلية والتي تبلغ 2.7 مليار دولار بنسبة عجز تبلغ 96.4 ٪. أكثر من 25 مليون من المدنيين السودانيين هم الآن في حاجة ماسة الى مساعدات إنسانية أساسية، ويشمل ذلك 14 مليون طفل يحتاجون الى مساعدات منقذة للحياة. 18 مليون من المدنيين السودانيين يعيشون في حالة انعدام الأمن الغذائي الحادة، وحوالي 5 ملايين منهم في مرحلة الجوع الحرج، بينما يعاني 3.8 مليون طفل تحت سن الخامسة من سوء التغذية الحاد. وتشير الاحصائيات الى أن 95٪ من المدنيين السودانيين داخل السودان لا يتناولون وجبة واحدة كافية يومياً. بينما وصل عدد حالات الإصابة بالكوليرا الى 11 ألف حالة. ومنذ الرابع من فبراير/ شباط المنصرم، دخلت البلاد في حالة انقطاع كامل لخدمات الاتصالات الهاتفية وخدمات الانترنت، بعد قيام قوات الدعم السريع بإغلاق الشبكات العاملة في السودان، الامر الذي فاقم من تدهور الوضع الانساني وعطل جهود تنسيق الإغاثة بالكامل وأدى الى شلل عمل أكثر من 300 مطبخ من المطابخ التكافلية في ولاية الخرطوم والتي كانت تتولى إطعام حوالي 3.5 مليون مواطن في العاصمة التي دمرتها الحرب.
مع تمدد الاقتتال واستمرار العالم في عدم التعامل بالمستوى المطلوب مع الوضع الكارثي في السودان تتفاقم معاناة المدنيين والأطفال
ووفق بيان صادر من صندوق الغذاء العالمي، بتاريخ 28 ديسمبر/كانون الأول 2023، أدى اجتياح قوات الدعم السريع لولاية الجزيرة، في الشهر ذاته، الى تعطيل زراعة مليون فدان بالمحاصيل الغذائية، كما أدى الى قطع سلاسل الإمداد الزراعي، وهو ما نتج عنه انخفاض المساحات المزروعة بالقمح بنسبة 70٪. وأشار البيان إلى ان قوات الدعم السريع قامت بنهب المخزون من المواد الغذائية في مخازن الصندوق في ولاية الجزيرة، والتي كانت مخصصة لتوفير الدعم الغذائي لمليون ونصف من المدنيين السودانيين لمدة شهر كامل على الأقل، بالإضافة الي نهب المعينات الغذائية اللازمة لعلاج سوء التغذية لمجموع 20 ألف من الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات. ولفت إلى أن الاعمال الحربية والحصار المضروب على ولايات كردفان وبالأخص مدن كادقلي وبابنوسة والأبيض، تسببت في تدهور الأوضاع المعيشية ووفاة أعداد كبيرة غير محصورة من السكان المدنيين، بينما بدأت نذر المجاعة الحادة في الظهور في دارفور والتي يبقى الوضع فيها غائباً عن التقارير الدقيقة نتيجة غياب المؤسسات الأممية المعنية بالعون الإنساني لخطورة الوضع الأمني في أغلب مناطق الإقليم.
نحن نعتقد بأن كارثة السودان اليوم تحتل موقعها ضمن أكبر الكوارث الإنسانية في زمننا المعاصر. وهذا الاعتقاد تعززه المشاهدات المباشرة والإحصائيات والأرقام الواردة في تقارير المؤسسات الأممية هي لملايين السودانيين الذين يواجهون خطر الموت جوعا ونتيجة تفشي الأوبئة وانعدام الدواء، مثل المشار إليها أعلاه، كما يعززه ضعف الاستجابة والعجز الذي نشاهده في تعامل العالم والمؤسسات الأممية مع هذه الكارثة.
إن هذه الأرقام والتقارير ليست تجريدا مفصولاً عن الواقع، ولكنها صرخة الى ضمير العالم لكي يصحو، والى المنظمات العاملة في المجال الإنساني بضرورة التعامل بجدية وتفعيل البروتوكول اللازم لمواجهة هذا الوضع الكارثي، وعدم ربط جهود الإغاثة الإنسانية باستئناف منابر التفاوض أو بالمسار السياسي أو المواقف المختلفة من الأطراف المتحاربة. وفي نداء ثان لمركز «فكرة» للدراسات والتنمية، صدر الأسبوع الماضي، أعاد مطالبة الأمم المتحدة ووكالاتها المعنية بإعلان حالة المجاعة الحادة من المستوى الخامس على الصعيد القومي في السودان، واستنفار دول العالم لتوفير الاحتياجات اللازمة للتصدي لهذه المأساة المتفاقمة. كما طالب مركز «فكرة» الأمين العام للأمم المتحدة، وعبر ممثله الشخصي للسودان، باستخدام صلاحياته حسب منطوق المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، لجدولة مناقشة الوضع في السودان أمام مجلس الأمن واتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المدنيين وضمان وصول الإغاثة الإنسانية لهم.
ونكرر ما أشرنا إليه في مقالنا السابق من أن القوى المدنية السودانية المتواجدة خارج البلاد بعيدا عن آثار المجاعة وتفشي الأوبئة، تتحمل قدرا من المسؤولية، ويجب أن تتوحد، ولو حول هذه القضية فقط، لتستثير حملة عالمية لإنقاذ المواطن السوداني من الموت جوعا.