تشهد البيئة الأمنية في البحر الأحمر توجهًا متناميًا نحو ما يمكن وصفه بـ “العسكرة” في إشارة إلى تنامي اعتماد القوى الدولية على الأداة العسكرية، لتحقيق أهدافها وكذا حماية مصالحها الحيوية، وذلك في إطار التعامل مع الاضطرابات الأمنية الناشئة عن التصعيد الحوثي في الممر الاستراتيجي، ضد السفن الإسرائيلية وبعض السفن الأخرى خصوصًا الذاهبة إلى الأراضي المحتلة أو القادمة منها، وقد بدأت تجليات “عسكرة” التفاعلات في البحر الأحمر مع إعلان الولايات المتحدة في 19 ديسمبر 2023 عن تأسيس تحالف “حارس الازدهار”، مرورًا بتدشين الاتحاد الأوروبي في 19 فبراير الجاري لقوة “أسبيدس” في البحر الأحمر، ووصولًا إلى الصين التي أعلنت بدورها أمس 24 فبراير عن إرسال الأسطول الـ46 الجنوبي إلى منطقة البحر الأحمر؛ الأمر الذي يمكن قراءته على أنه تطور مهم في إطار المقاربة الصينية للتعامل مع التطورات في منطقة البحر الأحمر، في هذا السياق تحاول هذه الورقة الوقوف على المحددات الصينية الحاكمة لهذه الخطوة، وأبرز التداعيات المترتبة على “عسكرة” التفاعلات التي تشهدها منطقة البحر الأحمر.
المحددات والحسابات الصينية
أفادت وكالة الأنباء الصينية في تقرير لها بتاريخ 24 فبراير الجاري، بإبحار أسطول عسكري من ميناء في مدينة تشانجيانغ الساحلية بمقاطعة قوانغدونغ بجنوب الصين، لتولي مهمة مرافقة الأسطول البحري الـ45 في خليج عدن والمياه الواقعة قبالة سواحل الصومال، ووفقًا لوكالة الأنباء الصينية يتكون الأسطول الـ46 من مدمرة الصواريخ الموجهة «جياوتسوه» وفرقاطة الصواريخ «شيويتشانغ» وسفينة الإمداد الشامل «هونغهو»، كما يضمُّ أكثرَ من 700 ضابط وجندي، من بينهم عشرات من أفراد القوات الخاصة، إلى جانب وجود مروحيتين على متن الأسطول، ويمكن قراءة هذا التحرك الصيني، في ضوء الاعتبارات التالية:
1- تأثر الصين بالعمليات في البحر الأحمر: يعكس التحول في الموقف الصيني تجاه التطورات في البحر الأحمر، من تبني نهج “الدبلوماسية المكثفة” إلى تعزيز الحضور العسكري، ما حملته التطورات الأمنية في الممر الاستراتيجي من تداعيات سلبية على الصين، وكان السفير الصيني لدى اليمن شاو تشنغ، قد أكد على هذا الافتراض في تصريحات صحفية أدلى بها يوم 22 فبراير في الرياض حيث أكد أن بلاده تأثرت بعمليات الحوثيين المتصاعدة في البحر الأحمر، مشددًا على ضرورة توقف تلك الهجمات ضد السفن التجارية، وأفاد بأن “الصين تأثرت بما يحدث في البحر الأحمر، وارتفعت أسعار التأمين على النقل البحري والسفن، واضطرت بعض السفن الصينية للمرور عبر جنوب أفريقيا مما يرفع التكاليف ويطيل المسافة والزمن لوصولها”، وأكد على أهمية تجنيب المنطقة والعالم تصاعد الوضع المتوتر في البحر الأحمر لما له من أهمية وتأثير على الصين ومنطقة الشرق الأوسط والعالم أجمع، وحذر المسئول الصيني من أن استمرار الصراع في البحر الأحمر قد يخرج عن السيطرة، داعيًا كل الأطراف للحفاظ على الأمن المشترك للبحر الأحمر واحترام سيادة الدول المطلة عليه وسلامة أراضيها وعدم التدخل في شئونها الداخلية.
2- المقاربة الصينية للتعامل مع التهديد الحوثي: هناك تباين بين التفسير الصيني لما يحدث في البحر الأحمر من توترات أمنية، وبين التفسير الأمريكي، إذ تربط الصين ما يحدث في منطقة البحر الأحمر بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ففي 3 يناير أكد قنج شوانج نائب المندوب الدائم للصين في الأمم المتحدة أن “التوترات الحالية في البحر الأحمر أحد مظاهر امتداد آثار الصراع الدائر في غزة”، كما أن الصين عبرت ضمنيًا عن رفضها للهجمات الأمريكية البريطانية التي استهدفت مواقع حوثية في اليمن، لكن هذا الموقف الصيني لا يعكس الرضا عن ممارسات الحوثيين، حيث دعت الصين التنظيم إلى “الالتزام بأحكام قرار مجلس الأمن والتوقف الفوري عن تعطيل السفن المدنية، واحترام حرية الملاحة لجميع الدول في البحر الأحمر”، وفي المقابل تحاول الولايات المتحدة فصل ما يحدث في البحر الأحمر عن التطورات التي يشهدها قطاع غزة.
ويمكن من تحليل التعاطي الصيني مع التطورات التي تشهدها منطقة البحر الأحمر، القول إن الصين ترى أن نقطة الانطلاق لوقف الهجمات الحوثية تبدأ من قطاع غزة، بمعنى وقف إطلاق النار، لكن وعلى الرغم من ذلك يبدو أن الصين تسعى إلى ضمان مصالحها الاستراتيجية في البحر الأحمر، عبر تعزيز الوجود العسكري، الذي سيغلب عليه الطابع “التأميني” لهذه المصالح، وفي هذا السياق لا يجب إغفال بعض الأرقام والحيثيات المهمة، فالصين صاحبة تجارة ضخمة وصلت في العام 2023 إلى 5.87 تريليونات دولار بين صادرات وواردات، كما أن منطقة البحر الأحمر تُعد ممرًا رئيسيًا في إطار مبادرة الحزام والطريق، يُضاف إلى ذلك أن الصين تأتي على رأس الدول التي تحوز طلبيات لبناء السفن في العالم، كما أن بحارتها يوجدون بكثافة على ظهر السفن التي تجوب البحار والمحيطات، وهي اعتبارات تعزز من حاجتها لتأمين هذه المصالح الحيوية عبر تعزيز الوجود العسكري في البحر الأحمر.
3- غلبة الطابع “التأميني والدفاعي” على القوة الصينية: على الرغم من تجنب الحوثيين حتى اللحظة لاستهداف الناقلات التجارية أو النفطية المتجهة إلى آسيا، فضلًا عن تجنبهم بطبيعة الحال استهداف السفن الصينية، لما يمكن أن يسببه ذلك من تحول في الموقف الصيني، فضلًا عما سيتبعه من ضغوط على إيران، إلا أن المخاطر الأمنية المتزايدة في البحر الأحمر يمكن أن تؤدي إلى تعطيل طرق التجارة الحيوية بالنسبة إلى الصين، خاصةً فيما يتعلق بتأخير وصول الشحنات، وارتفاع تكاليف الشحن؛ نظرًا إلى توجه أغلب السفن التجارية نحو الإبحار عبر طريق رأس الرجاء الصالح؛ لتجنب هجمات الحوثيين، وهو اعتبار يدفع باتجاه تعزيز الوجود الأمني “الدفاعي والتأميني” للصين في البحر الأحمر، بما يضمن تجنب هذا السيناريو وتقليل آثاره.
4- موازنة الحضور العسكري الغربي: حملت الأشهر الأخيرة في مرحلة ما بعد التصعيد في البحر الأحمر والتي بدأت منذ 19 أكتوبر 2023 (تاريخ بداية التصعيد الحوثي) توجهًا غربيًا قائمًا على “عسكرة” التفاعلات التي تتم في هذه المنطقة الاستراتيجية المهمة، وذلك من خلال مسارين رئيسيين؛ الأول: هو تأسيس التحالفات الأمنية على غرار “حارس الازدهار” والذي دشنته واشنطن في 19 ديسمبر 2023، وتحالف “أسبيدس” الأوروبي والذي تم الإعلان عنه في 19 فبراير الجاري، والثاني: هو البدء في تنفيذ ضربات استباقية ضد الحوثيين، وهو المسار الذي بدأ مع الهجمات الأمريكية البريطانية في 12 يناير الماضي.
ويبدو أن هذه التحركات الغربية خصوصًا ما يتعلق بالهياكل الأمنية الجديدة التي تم تأسيسها استهدفت ما هو أبعد من التعامل مع التهديد الحوثي، بمعنى أنها تستهدف في أحد أبعادها تثبيت وتعزيز الوجود العسكري في البحر الأحمر، الأمر الذي يمثل أحد مصادر القلق بالنسبة للصين، إذ تنظر الصين إلى حالة “العسكرة” التي تطغى على تفاعلات البحر الأحمر على أنها تُعزز من نفوذ الولايات المتحدة على حساب التمدد الناعم للصين المعتمد على الاستقرار والجوانب الاقتصادية، إضافة إلى ذلك تنظر الصين بقلق لأنها تعتقد أن الولايات المتحدة تسعى لتأجيج التوترات في البحر الأحمر بهدف محاصرة مبادرة “الحزام والطريق” والتي تتخذ من البحر الأحمر نقطة التقاء الممر البري بطريق الحرير البحري، والتضييق على قاعدتها العسكرية الوحيدة في الخارج في جيبوتي، ويعزز من منطقية هذا التخوف الصيني، احتمالية توجه الولايات المتحدة بالتزامن مع استمرار التصعيد الحوثي، إلى توجيه هجوم عسكري كبير لإنهاء سيطرتهم على ميناء الحديدة؛ الأمر الذي ينذر بتفاقم الحرب في الإقليم، مما سيكون له تداعيات سلبية كبيرة على مصالح الصين الاستراتيجية.
تداعيات “عسكرة” التفاعلات في البحر الأحمر
تدفع حالة “العسكرة” المتنامية للتفاعلات في منطقة البحر الأحمر باتجاه التسبب في العديد من التداعيات السلبية خصوصًا على مستوى تحويل الممر الاستراتيجي إلى ساحة للصدام بين القوى الكبرى وبعض القوى الإقليمية ووكلائها، ويمكن رصد أبرز هذه التداعيات، وذلك على النحو التالي:
1- التأثير على المصالح الاستراتيجية للدول: يدفع الجنوح المتنامي من قبل بعض القوى الدولية نحو “عسكرة” تفاعلاتها في منطقة البحر الأحمر، باتجاه تنامي وطأة الاضطرابات الأمنية في الممر الاستراتيجي المهم، وذلك على خلفية ما سيترتب على ذلك من هجمات سواءً تلك التي تستهدف بعض التنظيمات كالحوثيين، أو الهجمات التي سينفذها التنظيم ضد هذه الهياكل الأمنية الجديدة، الأمر الذي سيحمل تداعيات سلبية على حركة التجارة الدولية في البحر الأحمر، خصوصًا وأن البحر الأحمر يضم في طياته ثلاثة من أهم الممرات الملاحية الدولية وهي مضيق باب المندب وقناة السويس ومضيق هرمز.
2- استنفار رد الفعل “الحوثي”: يكمن الإشكال الرئيسي في التعاطي الغربي مع التوترات الأمنية التي تشهدها المنطقة حاليًا، في فصل هذا التصعيد عن الحرب الجارية في قطاع غزة، والسعي للتعامل مع كل حالة بشكل منفصل عما يحدث في غزة، بدلًا من الضغط بشكل فعال من أجل وقف الحرب الإسرائيلية على القطاع، وهنا يبرز تحدٍ مهمٌ يتمثل فيما يمكن أن يجلبه ذلك من استنفار رد فعل حوثي أكبر على مستوى التصعيد، سواءً من خلال استهداف بعض القواعد العسكرية الغربية في المنطقة، أو من خلال استهداف بعض المرافق الحيوية في البحر الأحمر على غرار الكابلات البحرية للاتصالات، خصوصًا وأن الحوثيين “أعلنوا منذ أيام عن دخول سلاح الغواصات في إطار التصعيد الجاري في البحر الأحمر”.
3- زيادة حجم الأنشطة غير المشروعة عبر البحر الأحمر: تدفع الاضطرابات الأمنية الراهنة في منطقة البحر الأحمر باتجاه خلق بيئة أمنية مواتية للأنشطة غير المشروعة؛ إذ إن هذه البيئة قد تمثل فرصة مواتية لخلق بيئة حاضنة للتجارة غير المشروعة في السلاح وتهريب البشر وتجارة المخدرات، خصوصًا وأن الجزء الجنوبي من منطقة البحر الأحمر يشهد انتشارًا للعديد من الفاعلين المسلحين من دون الدول والجماعات الإرهابية، على غرار الحوثيين في اليمن، وحركة الشباب الصومالية، والخلايا الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة في اليمن وبعض الدول الأفريقية، وقد تدفع هذه الاضطرابات الأمنية باتجاه تطور بيئة الدعم اللوجستي والتنسيق والإسناد بين هذه المجموعات.
في الختام، يمكن القول إن إرسال الصين للأسطول الـ46 إلى منطقة البحر الأحمر، يأتي في إطار المقاربة الصينية للتعامل مع التهديدات المتنامية التي تشهدها منطقة البحر الأحمر، على خلفية التصعيد الحوثي، وعلى خلفية تحرك بعض الدول الغربية لتأسيس هياكل أمنية مستدامة في هذه المنطقة الاستراتيجية؛ الأمر الذي يشكل في حصيلته تهديدًا للمصالح الحيوية والاستراتيجية للصين.