منذ حوالي ثلاثة أشهر، يشهد البحر الأحمر توترات متوالية تتمثل في قيام جماعة الحوثيين باعتراض واحتجاز بعض السفن التي تقول إنها إسرائيلية أو كانت في طريقها إلى موانئ إسرائيل من أجل الضغط عليها لإيقاف عدوانها على الشعب الفلسطيني. سارعت الولايات المتحدة لتشكيل تحالف للتصدي لما يقوم به الحوثيون، وبالفعل تم شن هجمات أمريكية بريطانية أكثر من مرة على مواقع يمنية.
هذه الهجمات لم تردع الحوثيين، بل زادتهم تمسكاً بموقفهم، ومن ثم رفعوا سقف التحدي. وهنا، فإن ثمة تساؤلات عديدة عن مواقف القوى الدولية من هذا التصعيد، ولا سيما الصين، من أبرزها: كيف تنظر الصين إلى مجريات الأمور في البحر الأحمر؟، وما الذي تراه ضرورياً من أجل إنهاء هذا التصعيد الذي بدأ يفرض تأثيراته على التجارة الدولية؟، وفي أي سياق يُقرأ امتناعها عن التصويت في مجلس الأمن على القرار الخاص بما يجري في البحر الأحمر؟.
أصل المشكلة
“إن التوترات الحالية في البحر الأحمر أحد مظاهر امتداد آثار الصراع الدائر في غزة”. بهذه الكلمات الواضحة عبر قنج شوانج نائب المندوب الدائم للصين في الأمم المتحدة عن موقف بلاده في الثالث من يناير 2024، وهو الموقف الذي انطلقت منه الصين، واستمرت متمسكة به.
وكما يلاحظ، فإن هذا الموقف من ناحية أولى قريب جداً من موقف الحوثيين، دون أن يعني ذلك أنها توافق على ما يقوم به الحوثيون، حيث أنها دعتهم إلى “الالتزام بأحكام قرار مجلس الأمن والتوقف الفوري عن تعطيل السفن المدنية، واحترام حرية الملاحة لجميع الدول في البحر الأحمر”.
ومن ناحية ثانية، فإن الموقف الصيني هذا على نقيض تام من الموقف الأمريكي، الذي يذهب إلى أنه لا رابط بين ما يجري في غزة وما يقوم به الحوثيون. ومن ثم فإن الولايات المتحدة وقفت بالمرصاد لمحاولات الربط الواضح تلك في قرار مجلس الأمن رقم 2722 الصادر في العاشر من يناير 2024. ومن ثم فقد جاءت الصياغة عامة دون تحديد لما يجري في غزة، حيث شدد القرار على “ضرورة معالجة الأسباب الجذرية بما في ذلك النزاعات التي تسهم في التوترات الإقليمية والإخلال بالأمن البحري”.
وربما كان هذا من بين الأسباب التي جعلت الصين تنضم إلى روسيا في موقفها المتمثل في الامتناع عن التصويت على القرار، حيث صدر القرار بأغلبية أحد عشر صوتاً وامتناع أربعة. ومن ثم كان الموقف الصيني المتطابق مع الموقف الروسي أيضاً من حيث مخالفة الضربات الأمريكية البريطانية على اليمن لقرار مجلس الأمن.
وقد طالبت الصين بضرورة احترام سيادة اليمن، وعدم زيادة الوضع تعقيداً. بل إنها اعتبرت أن نتائج تلك الهجمات سلبية على أمن البحر الأحمر. ومرة أخرى ومن على منصة مجلس الأمن أيضاً ذهب تشانج جيون المندوب الدائم للصين إلى أنه “من المؤسف رؤية أن الأعمال العسكرية الصارخة التي تقوم بها الدول المعنية ضد اليمن لا تتسبب فقط في تدمير البنية التحتية وسقوط الضحايا المدنيين، ولكنها تسفر أيضاً عن مخاطر أمنية متزايدة في البحر الأحمر. وهذا لا يسهم في حماية سلامة وأمن السفن التجارية وحرية الملاحة”.
إذن، فالصين لا تشكك فقط في مشروعية الضربات العسكرية ضد اليمن، وإنما تشكك أيضاً في جدواها بالنسبة لحرية الملاحة في البحر الأحمر، ناهيك عما تسببه من خسائر مادية وبشرية، فضلاً عما تفضي إليه من آثار سلبية على العملية السياسية في اليمن، بما قد يؤدي إلى تقويض هذه العملية كلية.
هذا المدخل الصيني في النظر إلى ما يجري في البحر الأحمر ينطلق من عناصر أساسية، تولدت عن رؤية أعم ليس فقط بالنسبة للتطورات في الشرق الأوسط، وإنما بالنسبة للتفاعلات العالمية وطرق التعامل معها، واختلاف أدوار القوى الكبرى فيها. فالصين تقر بأن البحر الأحمر طريق تجاري مهم ليس فقط لنقل البضائع، وإنما أيضاً لمصادر الطاقة. وهي بحكم كونها صاحبة تجارة ضخمة وصلت في العام 2023 إلى 5.87 تريليون دولار بين صادرات وواردات فإن من مصلحتها استمرار تدفق التجارة عبر هذا الممر الحيوي للتجارة العالمية.
كما أنه لا يمكن إغفال ما للصين من استثمارات في منطقة البحر الأحمر، ناهيك عن أهمية البحر الأحمر والمنطقة كلها في إطار مبادرة الحزام والطريق. كل هذا يجعل الصين أشد حرصاً على استمرار تدفق سلاسل الإنتاج والإمداد العالمية بسلاسة، خاصة وأن العالم لم يفق بعد من تداعيات فيروس كورونا على هذه السلاسل.
يضاف إلى ذلك أن الصين تأتي على رأس الدول التي تحوز طلبيات لبناء السفن في العالم، كما أن بحارتها يتواجدون بكثافة على ظهر السفن التي تجوب البحار والمحيطات. وفي هذا السياق، فقد ذكرت بعض المصادر أن الكثير من السفن التي تمر بالبحر الأحمر وخليج عدن في هذه الظروف تعلن عند القيام بإجراءات التعريف أن كل بحارتها من الصينيين. وفي هذا تلميح إلى ما تتمتع به السفن الصينية أو تلك التي عليها بحارة صينيون من معاملة خاصة من قبل الحوثيين على خلفية الموقف الصيني مما يجري. لكن الحوثيين يؤكدون على موقفهم المذكور سابقاً من حيث نوعية السفن التي يقصدونها.
تتسلسل الرؤية الصينية من الإقرار بأهمية البحر الأحمر كممر تجاري دولي، يجب المحافظة على حرية الملاحة فيه حتى لا تتأثر سلاسل الإنتاج والإمداد، لأن في ذلك حماية للنظام التجاري الدولي برمته. هذا النظام الذي دارت وما زالت تدور بشأنه جولات من المناكفات بين واشنطن وبكين. ولكل رؤيته، ومن ثم إجراءاته التي لا تمر دون إجراءات مضادة. والأمر كما هو معلوم لا يقف عند النظام التجاري الدولي، وإنما مجمل النظام الدولي بمختلف أبعاده.
طريقة المعالجة
تماماً كما كانت الصين واضحة في بيان العلاقة بين ما يجري في غزة وما يجري في البحر الأحمر، كانت واضحة في التأكيد على أن الهدوء في غزة سيعيد الهدوء إلى البحر الأحمر “فقط من خلال التوصل إلى وقف مبكر لإطلاق النار في غزة وتخفيف الأزمة الإنسانية على الأرض يمكننا تجنب مزيد من التصعيد في البحر الأحمر”. هكذا قال قنج شوانج في نفس الجلسة التي قال فيها كلامه التي استهل به الجزء الأول من هذا المقال.
بناءً على ذلك، فإن المفتاح الرئيسي لتهدئة الأمور في البحر الأحمر هو في الضغط من أجل وقف سريع لإطلاق النار، ومعالجة المسائل الإنسانية الكارثية. ومرة أخرى، فإن هذا الموقف الصيني يتعارض تماماً مع الموقف الأمريكي الذي ظل متمسكاً بالحيلولة دون تضمين قرارات مجلس الأمن التي تم إقرارها وفقاً لإطلاق النار، وفي حال تم الإصرار على مثل هذا البند يكون الفيتو الأمريكي جاهزاً.
لا تقف الصين عند مجرد المطالبة بوقفٍ لإطلاق النار، وإنما ضرورة الذهاب إلى مسار تسوية واضح عماده حل الدولتين، وقد طالبت بعقد مؤتمر دولي. وكما هو معلوم فإن هذا الموقف الصيني لا يروق لكل من واشنطن وتل أبيب منذ اليوم الأول للحرب.
كيف هو المخرج من وجهة النظر الصينية؟
مرة أخرى، تؤكد بكين على أن التعويل على عدم انتشار التوتر في المنطقة في ظل استمرار الصراع في غزة يدخل في باب الأمنيات. كما أنه لا يمكن فهم المطالبة بعدم انتشار الصراع وفي نفس الوقت تكون هناك مواجهات عسكرية، فيما أسمته بكين صباً للزيت على النار في إشارة إلى الضربات العسكرية ضد اليمن.
وقد كان وزير الخارجية الصيني وانج يي واضحاً في هذا الأمر عندما أكد من القاهرة على أن مجلس الأمن لم يخول لأي دولة استخدام القوة ضد اليمن، ومطالباً بالتوقف عن إجراءات صب الزيت على النار في البحر الأحمر، ومن ثم التسبب في رفع مستوى المخاطر الأمنية الإقليمية.
وقد اعتبرت الصين أن مثل هذا السلوك لا يعد فقط تناقضاً ذاتياً، وإنما يدخل في باب عدم المسئولية أيضا.ً طبعاً، إذا قُرِأ الأمر في إطار المناظرة الكبرى بين بكين وواشنطن على الصعيد الدولي، فإن بكين ترمي إلى أنه يفترض في القوى الكبرى أن تتصرف بمسئولية من أجل منع وتطويق الصراعات وليس إشعالها وتغذيتها، وقد كان هناك كلام مشابه في حالة النزاع في أوكرانيا.
وحتى لا تتشعب الأمور كثيراً في هذا المنحى، وبالعودة إلى ما ينبغي فعله للخروج من الحالة الراهنة في البحر الأحمر من وجهة نظر الصين، فإنها تذهب إلى أن الخطر الحالي بمنطقة الشرق الأوسط شديد، وأنها ليست في حاجة إلى تصعيد ومغامرات عسكرية من شأنها أن تزيد الصراع اتساعاً.
وكما هو معلوم، فإن تداعيات ما يحدث في غزة لا تقف فقط عند ما يجري في البحر الأحمر، حيث طال التصعيد كلاً من لبنان وسوريا والعراق. وهناك انخراط من قبل واشنطن في ضربات عسكرية في كل من سوريا والعراق، في ظل متوالية الفعل ورد الفعل. ويلاحظ هنا أن واشنطن هي الأخرى لا تريد للصراع أن يتسع، وخاصة على الجبهة اللبنانية. لكن شتان بين الرؤية الأمريكية والرؤية الصينية على هذا الصعيد. فرؤية واشنطن تقوم على ضرورة القبول والتسليم الإقليمي بالرؤية الإسرائيلية، أو ما تسميه واشنطن بالحق في الدفاع عن النفس مهما كانت تداعيات ذلك، وأن لا يكون هناك أي ردود فعل مناوئة لذلك. بينما الرؤية الصينية لمنع التصعيد ترى أن الحل في وقف ما يجري في غزة وليس إطالة أمده.
الصين تطالب بالهدوء. والهدوء هنا ليس مقصود به جانب دون الآخر. وفي حالة البحر الأحمر، فإن على الحوثيين الهدوء وكذلك الأمريكيين وحلفائهم. ومن ثم كانت الصين واضحة في ضرورة توقف ما أسمته بالتحرش بالسفن التجارية، وفي نفس الوقت ضرورة احترام سيادة اليمن.
الهدوء الذي تطالب به الصين لن يتأتى إلا إذا قامت كل الأطراف بضبط النفس، ومن ثم انتهاج الطرق الدبلوماسية للتعامل مع الاختلافات من أجل تسوية الأمور عبر الحوار. وقد ظلت الصين تؤكد على الاستعداد للعمل مع جميع الأطراف من أجل تحقيق تلك الأهداف. وفي الختام، وعلى ضوء المقاربة الصينية، هل يمكن أن تنخرط الصين في مسعى لخفض التوتر في البحر الأحمر بعيداً عن خفض التوتر في غزة؟.
من حيث المبدأ، لا يمكن استبعاد ذلك، خاصة وأن أي تخفيض للتوتر في المنطقة يعتبر تطوراً إيجابياً يمكن البناء عليه، كما أنه يمكن البناء عليه مستقبلاً لتخفيض مجمل التوترات في المنطقة. لكن هل تملك الصين نفوذاً على الحوثيين يمكنها من خلاله دفعهم إلى التراجع؟، وقبل ذلك حتى لو كانت تملك هذا النفوذ هل يدل السلوك الحوثي على إمكانية الاستجابة للمطالب الصينية؟، ثم ما الذي ستقدمه الصين للحوثيين على هذا الصعيد؟، وهل ستقبل واشنطن بأن تمارس بكين هذا الدور أساساً؟.
إجابات هذه الأسئلة منفتحة على احتمالات كثيرة وفي نفس الوقت فإنها مرتبطة بتساؤلات أكثر حول أدوار قوى إقليمية فاعلة تتشعب علاقاتها مع الصين، وفي الوقت ذاته لا تخفي دعمها للأطراف الإقليمية المناوئة لواشنطن وتل أبيب، وإن أصرت على استقلالية قرار هذه الأطراف.
إن ما يجري في البحر الأحمر ستكون له دلالات فيما يتعلق بأدوار القوى العالمية في المنطقة. فهل سيؤدي ذلك إلى سعي صيني أنشط وأسرع فيما يتعلق بالتواجد الاستراتيجي في المنطقة عبر قواعد عسكرية إضافية؟، أم ستكتفي بزيادة مستوى التنسيق والتبادل بين قواتها البحرية وقوات دول المنطقة؟، وهل ستسمح واشنطن بحدوث ذلك؟، وهل من الممكن حدوث توترات بحرية بين الجانبين في البحر الأحمر ومداخله؟.