يفرض الطابع الصراعي المزيد من التعقيد على المشهد الإقليمي في منطقة الساحل التي تشهد تحولات جوهرية خلال السنوات الأخيرة، بما في ذلك صعود نخبة عسكرية جديدة أسهمت في تحريك المياه الراكدة بالمنطقة عقب موجة من الانقلابات التي شهدتها بعض الدول الأفريقية، وذلك من خلال تغييرات سياسية جذرية أطاحت ببعض الأنظمة الراسخة هناك، والدفع نحو إعادة تشكيل وصياغة التحالفات الإقليمية والدولية في الإقليم.
وقد تجلى ذلك في انخراط روسيا في المنطقة باعتبارها حليفاً جديداً بترحيب أفريقي على حساب فرنسا الحليف التقليدي لدول الساحل وغرب أفريقيا، وما صاحب ذلك من تراجع واضح للنفوذ الفرنسي في المنطقة، في مقابل توسع روسي عبر ذراعها الأمنية “فاجنر” المنتشرة في بعض دول المنطقة. إضافة إلى التحولات الجوهرية في المعادلة الأمنية الإقليمية عقب إعلان كل من بوركينافاسو والنيجر في 2 ديسمبر الجاري (2023) انسحابهما من مجموعة دول الساحل الخمس G5 لينضما إلى مالي التي انسحبت في مايو 2022، بما يعني انهيارًا ضمنيًّا للتكتل الخماسي الإقليمي، وسط تكهنات ببزوغ تحالف ثلاثي إقليمي جديد يضم الدول الثلاث، الأمر الذي يثير تساؤلات حول جدوى هذا التحالف الجديد ومستقبله في ضوء حجم التفاعلات المعقدة في الساحل، وانعكاسات ذلك على أمن المنطقة واستقرارها خلال المرحلة المقبلة.
سياق حاكم مضطرب
لعبت سلسلة الانقلابات العسكرية التي شهدتها منطقة الساحل خلال السنوات الثلاث الأخيرة دورًا بارزًا في إعادة تشكُّل المشهد الإقليمي في الإقليم، بفضل صعود نخبة عسكرية حاكمة جديدة تتبنى خطابًا جديدًا مناهضًا للنفوذين الغربي والفرنسي في محاولة للتحول عن حلفائهم السابقين[1]، وهو ما أسهم في توتر العلاقات بين المجالس الانتقالية الحاكمة في دول الساحل والدول الغربية، وفي مقدمتها فرنسا، وتكتل إيكواس الذي أضحى يواجه أزمة هيكلية داخلية تهدد بانهياره خلال الفترة الأخيرة في ضوء الاتهامات المستمرة للتكتل بالتماهي مع فرنسا وخدمة أهدافها من خلال الضغوط المستمرة على دول حزام الانقلابات لا سيما النيجر.
وقد وصل الأمر لدرجة التهديد بالتدخل العسكري لاستعادة النظام الدستوري بقيادة الرئيس السابق محمد بازوم، ما دفع بعض الدول مثل مالي للانسحاب من تكتل دول الساحل الخمس في مايو 2022، قبل أن تتبعها كل من بوركينافاسو والنيجر في ديسمبر 2023، بما يسدل الستار على التحالف الإقليمي الذي ظهر لأول مرة في عام 2014 بهدف محاربة الإرهاب في الساحل[2].
في الوقت الذي يشير فيه توقيع ميثاق ليبتاكو-جورمافي سبتمبر 2023 إلى تأسيس تحالف جديد يُطلق عليه “تحالف دول الساحل”، والذي يتألف من الدول الثلاث بوركينافاسو ومالي والنيجر، والمرجح أن يتضاعف عدد دوله الأعضاء خلال الفترة المقبلة، وذلك في رسالة واضحة إلى كل من إيكواس والغرب بإصرار دول حزام الانقلابات على الاستغناء عن فرنسا والغرب، خاصة مع دخول موسكو كحليف جديد على خط المواجهة يسعى إلى تحجيم الدور الفرنسي في المنطقة، وملء الفراغ الذي ستخلفه باريس خلال المرحلة المقبلة، في ضوء التراجع المستمر الذي يتجلى في انسحاب القوات الفرنسية من بعض دول الساحل مثل مالي والنيجر وبوركينافاسو وقبلها أفريقيا الوسطى خلال السنوات الأخيرة، في مقابل انتشار واسع لمجموعة “فاجنر” الروسية الأمنية هناك، وهو ما يعكس سياقًا إقليميًّا متوترًا بفضل سياسة شد الأطراف التي تتبناها فرنسا وإيكواس ضد دول الممانعة الجديدة في الساحل.
ويعزز هذا المشهد المضطرب ديناميكية النشاط الإرهابي في الساحل، في ظل تنامي الهجمات الإرهابية التي تتورط فيها العديد من التنظيمات النشطة هناك لا سيما القاعدة وداعش[3]. إذ يمثل المثلث الحدودي في منطقة تيلابيري بين دول مالي وبوركينافاسو والنيجر بؤرة رئيسية لنشاط التنظيمات الإرهابية وبخاصة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين الموالية للقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى اللذيْن حاولا السيطرة على بعض المناطق في شمال مالي تمهيدًا لقيام ولايات تابعة لهما هناك، بهدف توسيع نطاق سيطرتهما الجغرافية في المنطقة لتأكيد نفوذهما في الساحل، ومن ثم التمدد إلى مناطق أخرى في غرب ووسط القارة[4].
ويشكل ذلك ضغطًا على العسكريين الجدد في الساحل الذين تعهدوا بالقضاء على مخاطر الإرهاب في دولهم دون تحقيق نتائج إيجابية في هذا الصدد خلال الفترة الأخيرة، وهو ما قد ينعكس على تراجع شعبيتهم لدى الرأي العام الأفريقي الذي رحب بحركاتهم العسكرية في بدايتها للتخلص من سوء إدارة وحكم الأنظمة الحاكمة السابقة وإخفاقها في مواجهة الإرهاب ببلدانهم، وربما يدفع نحو موجة جديدة من الانقلابات على الانقلابات الأخيرة على غرار ما شهدته بوركينافاسو في عام 2022 وكذلك مالي في أغسطس 2020 ومايو 2021، بما يهدد باستمرار حالة الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي والأمني في منطقة الساحل على المدى القريب.
دوافع الانسحاب
يحمل قرار بوركينافاسو والنيجر بالانسحاب من مجموعة دول الساحل الخمس العديد من الأسباب والدوافع لديهما في ضوء السياق الإقليمي الراهن في المنطقة، ويتمثل أبرزها في:
1-الحفاظ على الرصيد الشعبي مرتفعًا: تسهم هذه الخطوات التصعيدية التي يتخذها العسكريون الجدد ضد الغرب وفرنسا خلال الفترة الأخيرة في تغذية الروح الوطنية لدى الرأي العام الأفريقي في دول الساحل، بما يضمن للمجالس الانتقالية الحاكمة دعم الظهير الشعبي لها، وما يرتبط بذلك من تعزيز نفوذها في السلطة، بعد نجاحها في الالتفاف على الأزمات الداخلية المتفاقمة بتصديرها لأزمات الخارج. لكنه في ذات الوقت، يعزز المشاعر المعادية للغرب وفرنسا في دول المنطقة، بما يمنح القادة الجدد فرصة اتخاذ المزيد من الإجراءات مثل قرار بوركينافاسو في ديسمبر الجاري بإلغاء اعتماد اللغة الفرنسية كلغة رسمية في البلاد، وسبقتها إليه مالي في يونيو 2023، بما يهدد النفوذ الثقافي الفرنسي، بينما يعيد الاهتمام بمسألة إحياء الهوية الأفريقية مجددًا في المجتمعات الأفريقية.
2- تراجع قوة تحالف G5: تدرك واجادوجو ونيامي عدم جدوى البقاء في التكتل الخماسي الإقليمي، لا سيما أنه أخفق في تحقيق أهدافه التي تأسس من أجلها منذ تسع سنوات وعلى رأسها العجز عن بسط الأمن وتحقيق التنمية في منطقة الساحل، كما أنه فقد جُلَّ قوته بانسحاب مالي في عام 2022، إضافة إلى رغبة الدول الثلاث في قطع جميع الصلات مع فرنسا التي تمتلك نفوذًا كبيرًا في التكتل لا سيما أنها أشرفت على تأسيسه في عام 2014 وتدعمه ماليًّا.
3- بزوغ تكتل إقليمي مناوئ لفرنسا: يمثله تحالف دول الساحل الذي يضم دول مالي وبوركينافاسو والنيجر، التي ترتبط بعلاقات متوترة للغاية مع باريس خلال السنوات الأخيرة، على خلفية نجاح الانقلابات العسكرية في الإطاحة بحلفائها الأساسيين بالساحل، وصعود نخبة حاكمة جديدة ترفض الانخراط في الفلك الفرنسي. ويعزز ذلك الخطاب الأفريقي الجديد المناهض للنفوذ الغربي بما في ذلك الفرنسي في المنطقة، فقد أشار البيان المشترك بين النيجر وبوركينافاسو إلى رفضهما خدمة المصالح الغربية على حساب مصالح شعوب المنطقة، لا سيما أنهما تمتلكان طموحات مشروعة متعلقة بتعزيز الأمن الإقليمي ودفع عملية التنمية في المنطقة، لكن يعرقلها بعض المؤسسات الإقليمية التي تمتد سياساتها لحقب زمنية استعمارية سابقة في إشارة إلى تكتل دول الساحل الخمس المدعوم فرنسيًّا، ما دفعهما إلى الانسحاب منه.
4- رسالة تهديد لإيكواس: تتجه العلاقة بين الدول الثلاث -بوركينافاسو ومالي والنيجر- مع تكتل إيكواس نحو طريق مسدود، في ضوء تزايد التوترات بينهما خلال السنوات الأخيرة، بفعل الضغوط والتهديدات التي تمارسها إيكواس ضد المجالس الانتقالية الجديدة، بما قد يدفع العسكريين الجدد إلى خطوة تصعيدية ضد إيكواس بتعليق عضوية بلادهم فيها، وربما الانسحاب منها لطالما استمرت في ضغوطها لا سيما أن النخبة العسكرية الجديدة تدرك الدور الفرنسي في تحريض قادة إيكواس ضد بعض دول حزام الانقلابات، خاصة عقب الفشل في التصدي لسلسلة الانقلابات المستمرة واحتوائها، الأمر الذي قد يهدد تماسك ووحدة المنظمة الإقليمية خلال المرحلة المقبلة.
كما تعد خطوة الدول الثلاث بمثابة رسالة تهديد لكل من إيكواس والغرب بما في ذلك فرنسا، لأنه في حالة التوافق على تدشين تحالف إقليمي جديد بديل لتكتل G5 برعاية فرنسية، من المحتمل أن يواجه المزيد من التحديات التي قد تقف عائقًا أمام نجاحه، في مقدمتها أن دول بوركينافاسو ومالي والنيجر تمثل بؤرة نشاط العناصر الإرهابية في الساحل خلال الفترة الراهنة، وما قد يعنيه ذلك من أهمية تواجدهم وانخراطهم في أي تحالف لتحقيق أهدافه الخاصة بالقضاء على الإرهاب، بدلًا من أن تصبح مناطق إيواء للعناصر الإرهابية وتصديرها لتهديد المصالح الدولية والإقليمية في الساحل وجواره المباشر وغير المباشر.
5- إيجاد بديل لمجموعة الساحل الخمس: يمثل اتفاق ليبتاكو-جورما الذي وقعته دول مالي والنيجر وبوركينافاسو في سبتمبر 2023 خطوة جادة في التحول من التحالفات الموالية للغرب لإيجاد تحالف أفريقي يعتمد على الإمكانات المحلية والإقليمية في مكافحة الإرهاب دون تدخلات أجنبية، وهو ما يعكس النزعة الجديدة للعسكريين الجدد الرافضين للانصياع تحت عباءة الغرب وفرنسا، وهو ما قد يعزز التكهنات حول تطوير آليات الحلف الأمني الجديد بتشكيل قوة عسكرية إقليمية، إضافة إلى آليات تنموية واقتصادية تدفع نحو التكامل الإقليمي في الساحل. وبرغم صعوبة تحقق ذلك في ضوء التحديات التي تواجهها دول الساحل، لكنها تظل رؤية طموحة تعكس تحولات جوهرية في توجهات النخب الحاكمة الجديدة بمنطقة الساحل.
تداعيات محتملة
يمكن أن يؤدي انسحاب بوركينافاسو والنيجر من التكتل الخماسي الإقليمي إلى عدد من التداعيات المحتملة، من أبرزها:
1- توسيع الفجوة مع إيكواس: قد تساهم الضغوط التي تمارسها إيكواس باستمرار ضد بعض دول الساحل لا سيما النيجر، في تنامي التوتر وما قد يصاحبه من خطوات تصعيدية من جانب دول حزام الانقلابات، وربما انضمام دول إلى جوارها ضد سياسات إيكواس المتماهية مع السياسات الغربية والفرنسية، وهو ما يعزز حالة الانقسام في إيكواس وربما يتطور الأمر إلى وجود تكتلات متضادة قد تؤدي في النهاية لانهيار تماسك التكتل الإقليمي الأكثر قوة في القارة خلال السنوات الماضية.
2- تزايد دول الممانعة لفرنسا: أضحت سلسلة الانقلابات العسكرية الأخيرة ملهمة بالنسبة لبعض الضباط العسكريين في الجيوش الأفريقية بالساحل، بما يرجح اندلاع موجة جديدة من الانقلابات في المنطقة، ويعزز هذا الطرح المحاولة الانقلابية الفاشلة الأخيرة في غينيا بيساو، وهو ما قد يوسع دائرة التحالفات الإقليمية المناهضة لفرنسا في الساحل، بما ينعكس على تزايد عدد الدول الأعضاء في تحالف دول الساحل الجديد خلال الفترة المقبلة.
3-ضغوط دولية لإفشال التحالف الجديد: من المتوقع إعاقة الغرب وفرنسا للتوسع المحتمل للتحالف الجديد في الساحل، من خلال ممارسة المزيد من الضغوط على دول المنطقة، بما في ذلك حرمانه من الشرعية الدولية، واستمرار الرفض الدولي للانقلاب الأخير في النيجر، وتعليق المساعدات الأمنية والاقتصادية لبعض دول حزام الانقلابات، وربما تغذية عدم الاستقرار الداخلي في هذه الدول من أجل تأليب الرأي العام الأفريقي على النخب الحاكمة الجديدة، وهو ما يشكل عبئًا كبيرًا على المجالس الانتقالية الحاكمة في دول الساحل لتجاوز هذه التحديات في سبيل تحقيق أهداف التحالف الجديد.
4- توسع النفوذ الروسي: تظل موسكو هي المستفيد الأكبر من تدهور العلاقات الفرنسية مع دول الساحل، في ضوء تحول المزيد من القادة العسكريين الجدد للتحالف مع موسكو على حساب باريس، وهو ما يعني توسيع دائرة النفوذ الروسي في الساحل، بما يمنح موسكو المزيد من أوراق الضغط لتمارسها ضد الغرب في مناطق استراتيجية أخرى مثل أوكرانيا، الأمر الذي يعزز التنافس الدولي في المنطقة بما في ذلك تنامي عسكرتها خلال الفترة المقبلة.
وإجمالًا، يأتي انسحاب دولتي بوركينافاسو والنيجر وقبلهما مالي من مجموعة دول الساحل الخمس كخطوة طبيعية للرد على ممارسات إيكواس خلال السنوات الأخيرة، والدفع نحو فك الارتباط مع فرنسا التي تسيطر على تكتل G5 منذ تأسيسه في العقد الماضي. وفي إطار التحول الدراماتيكي في منطقة الساحل الذي يتجلى في تدشين مرحلة جديدة تشهد إعادة هندسة المنطقة وإعادة صياغة جيوسياسية جديدة للتحالفات الإقليمية والدولية هناك، بما يعزز المكاسب الاستراتيجية لدول الساحل، ويفتح المجال للشراكات مع حلفاء جدد على أساس مبدأ “الكل رابح”، بعكس ما كان عليه الحليف الفرنسي طوال العقود الماضية.