في يوم الأربعاء الموافق 11 اكتوبر 2023، اعتمدت الدورة العادية رقم 54 لمجلس حقوق الإنسان القرار A/HRC/54/L.18 والذي ينص على إنشاء بعثة دولية مستقلة لتقصي الحقائق حول الأوضاع في السودان، وهي إحدى أهم الفقرات العملية التي تم النص عليها واعتمادها في هذا القرار.. ولاية بعثة تقصي الحقائق سوف تقتصر على التحقيق بغرض جمع المعلومات حول طبيعة ما يرتكب في السودان من جرائم والتأكد من وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الدولي الانساني على أن تقدم البعثة استنتاجاتها وتوصياتها في تقرير شامل للمجلس يناقش في دورته العادية رقم 57 في سبتمبر 2024..
اهتم القرار كثيرا بضرورة وقف إطلاق النار وتحسين الوضع الانساني وحماية المدنيين وفي هذا الشأن خصص عدة فقرات عاملة أدان في احداها القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع لانتهاكاتهم المتكررة لاتفاق وقف إطلاق النار وعدم التزامهم بحماية المدنيين حسب ما تم الاتفاق عليه في إعلان جدة (11مايو 2023). كما دعا القرار إلى وقف فوري وشامل لإطلاق النار من جميع الاطراف والاسراع بضمان امكانية وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين وبشكل كامل وآمن ودون عوائق. من النقاط المهمة كذلك أوصى القرار بإنشاء آلية مستقلة لمراقبة وقف إطلاق النار وبصورة لافتة دعا إلى الوصول إلى حل تفاوضي سلمي للنزاع على أساس “حوار شامل” والتزام أطراف النزاع مع شعب السودان من أجل الانتقال إلى حكم يقوده المدنيين.
صدر القرار تحت البند الثاني من بنود أعمال مجلس حقوق الإنسان، وتم اعتماده بتصويت الدول الأعضاء بعد مفاوضات معقدة كانت نتيجتها تصويت 19 دولة تأييدا للقرار، 16 دولة معارضة له، بما فيها السودان، و12 دولة امتنعت عن التصويت، نصفها دول افريقية، تعبيرا من مقدمي مشروع القرار عن رغبتهم في الوصول إلى توافق للآراء وإجماع أعضاء المجلس فقد وافقوا على تعديلات هامة ادخلها وفد السودان وداعميه من الدول الأخرى والتي اضعفت كثيرا من بعض بنود القرار، إلا إن المفاجأة كانت في تعنت وفد السودان وداعميه خاصة الدول العربية ورفضهم للقرار بعد التعديلات التي ادخلوها عليه، عموما نتيجة التصويت هي انتصار لدعاة السلام وللأصوات المطالبة بإيقاف المواجهات المسلحة وتخفيف اثار الضائقة الإنسانية على المدنيين المحاصرين في خطوط القتال داخل المدن السودانية .
من السخرية بمكان إن الوفد الحكومي السوداني في جنيف نظر إلى نتائج التصويت باعتبار إنها تمثل انقسام عميق بين أعضاء المجلس وبذلك اضعفت من قوة القرار المعنوية حسب اعتقادهم. الادعاء بأن هناك انقسام بين أعضاء المجلس حول الاوضاع في السودان دون ذكر أسباب حقيقية اخرى هو بمثابة تضليل للرأي العام. كذلك فإن استخدام مثل هذه اللغة هو تمهيد لعدم التعاون مع بعثة تقصي الحقائق ومواصلة تصعيد المواجهة مع منظمة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
نص القرار بأن تتكون البعثة من ثلاثة أعضاء من ذوى الخبرة في القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني وذلك لفترة أولية مدتها عام واحد تنتهي بتقديم اللجنة لتقريرها الشامل في سبتمبر 2024 .
حسب منطوق الفقرة العاملة رقم 18 من قرار مجلس حقوق الانسان، فالغرض من البعثة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق في السودان هو:
(أ). التحقيق في جميع الانتهاكات والتجاوزات المزعومة لحقوق الإنسان وانتهاكات القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك تلك المرتكبة ضد اللاجئين، والجرائم ذات الصلة في سياق النزاع المسلح المستمر الذي بدأ في 15 نيسان/أبريل 2023، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وغيرهما من أطراف النزاع، وإثبات الوقائع والظروف والأسباب الجذرية لها؛
(ب). الحصول على الأدلة على هذه الانتهاكات والتجاوزات وتجميعها وتحليلها، بما في ذلك تلك التي ترتكب ضد النساء والأطفال، والعمل على نحو منهجي على تسجيل وحفظ جميع المعلومات والوثائق والأدلة، بما في ذلك المقابلات وإفادات الشهود ومواد الاستدلال الجنائي العلمي، بما يتفق مع أفضل الممارسات الدولية، في انتظار أي إجراءات قانونية مقبلة؛
(ج). توثيق المعلومات والأدلة ذات الصلة والتحقق منها، بطرق منها العمل الميداني، والتعاون مع الكيانات القضائية وغير القضائية، حسب الاقتضاء؛
(د). القيام، قدر الإمكان بتحديد هوية الأفراد والكيانات المسؤولين عن انتهاكات أو تجاوزات حقوق الإنسان أو انتهاكات القانون الدولي الإنساني، أو غيرها من الجرائم ذات الصلة، في السودان، بغية ضمان محاسبتهم عليها؛
(ه). تقديم توصيات، ولا سيما بشأن تدابير المساءلة، تهدف جميعها إلى إنهاء الإفلات من العقاب ومعالجة أسبابه الجذرية، وضمان المساءلة، بما في ذلك، حسب الاقتضاء، المسؤولية الجنائية الفردية، وإمكانية لجوء الضحايا إلى العدالة؛
(و). تقديم تحديث شفوي عن أعمالها إلى مجلس حقوق الإنسان في دورته السادسة والخمسين يعقبه حوار تفاعلي، وتقديم تقرير شامل عن ذلك في دورته السابعة والخمسين، يعقبه حوار تفاعلي معزز ينبغي أن يشارك فيه مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، وممثلو الإتحاد الأفريقي، والمستشار الخاص للأمين العام المعني بمنع الإبادة الجماعية؛
(ز). تقديم التقرير المذكور أعلاه إلى الجمعية العامة في دورتها التاسعة والسبعين؛
(ح). التعاون وتبادل أفضل الممارسات مع مبادرات المساءلة الدولية والإقليمية والمحلية الأخرى، عند إنشاء هذه المبادرات، حسب الاقتضاء؛
(ط). التركيز في عملها بشكل خاص على حقوق الإنسان والحالات الإنسانية في المناطق التي تثير أكبر قدر من القلق، مثل الخرطوم ومنطقة دارفور في السودان.
من الضروري التنبيه إلى إن البعثة ستقوم بالتحقيق لتقصي طبيعة الاحداث (وليس التحقيق الجنائي) وذلك بغرض إثبات الحقائق والظروف والأسباب الجذرية لانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الانساني.
إن الفقرة الفرعية (ه) من الفقرة 18 والتي تشير إلى أن البعثة تقدم توصياتها إلى مجلس حقوق الانسان بشأن تدابير المساءلة وإنهاء الإفلات من العقاب ومعالجة أسبابه الجذرية، بما في ذلك المسؤولية الجنائية الفردية، وحصول الضحايا على العدالة تعطي القرار أهمية كبرى.. إنها تمثل أول تحرك عالمي جاد من قبل مجلس حقوق الإنسان لوضع حد للإفلات من العقاب في السودان ولمحاصرة عنف الدولة ضد مواطنيها ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وكذلك منتهكي حقوق الإنسان والقانون الدولي الجنائي في السودان وتعويض الضحايا..
دعا القرار أطراف النزاع المسلح في السودان إلى التعاون – بصورة كاملة – مع بعثة تقصي الحقائق في أداء عملها، كما دعا المجتمع الدولي أن يقدم الدعم الكامل للبعثة في سبيل تنفيذ ولايتها .. سيكون التعاون بين أطراف النزاع المسلح مع البعثة في انجاز مهامها عاملا حاسما في كيفية تعامل المجتمع الدولي المستقبلي مع أجهزة الدولة في السودان ومع الاطراف المعنية بهذا القرار..
إن طبيعة عمل وتفويض (بعثات تقصي الحقائق) التي يكونها مجلس حقوق الإنسان يختلف عن عمل وتفويض (لجان التحقيق الدولية) خاصة تلك اللجان التي يكونها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نيويورك والتي يمكن أن يترتب على أعمالها نتائج مختلفة مثل احالة ملف للقضية والاشخاص المتهمين لارتكاب جرائم جنائية دولية إلى المحكمة الجنائية الدولية استنادا على القرار 1366 لمجلس الأمن (اغسطس 2001) الذي كان الأساس الذي مهد لإنشاء اللجنة الدولية للتحقيق في دارفور برئاسة القاضي الايطالي الراحل انتونيو كاسيسي وتلا ذلك اصدار القرار 1593 بإحالة قضية دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية .
استنادا على تقرير البعثة أو توصية الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة فيمكن لمجلس الأمن اجراء تحقيق منفصل أو اصدار عقوبات دولية متنوعة تحت البند السابع من ميثاق منظمة الأمم المتحدة مثل حظر بيع الأسلحة للدولة ومنع الطيران لأغراض عسكرية والحد من مقدرة بعض الأفراد من السفر خارج السودان وحظر أموالهم واستثماراتهم.
من الضروري التأكيد بأن اتخاذ هذا القرار يمثل خطوة مهمة جدا من أجل حماية وتعزيز حقوق الانسان في السودان ومن أجل تحقيق العدالة للضحايا. يبقي التحدي بأن القرار بالضرورة يجب أن تتبعه قرارات أخرى لأن عمل بعثة تقصي الحقائق في أحسن الظروف يمهد الطريق لمجلس حقوق الإنسان ولأجهزة الأمم المتحدة الأخرى، بما في ذلك الجمعية العامة ومجلس الأمن في نيويورك، لاتخاذ تدابير إضافية وبصلاحيات قانونية أوسع وأخطر بما في ذلك احالة ملفات الجرائم الجنائية الدولية المرتكبة في السودان والاشخاص المسؤولين عن ذلك إلى المحكمة الجنائية الدولية أو فرض عقوبات على أجهزة الدولة وكذلك على الجماعات والأفراد الذين يثبت تورطهم في تأجيج النزاع.
إن المواجهة بين حكومة السودان والعالم في وقت تعاني فيه البلاد من ويلات الاقتتال والضائقة الانسانية وانعدام التنمية هي ليست في مصلحة البلاد ولا تراعي حقوق المواطنين أو الرأفة لحالهم والرغبة في ازالت الضرر عنهم.. على الحكومة التعاون مع البعثة وعدم الدخول في مواجهة جديدة مع المجتمع الدولي.. البعثة ستقوم بعملها على اي حال وستقدم تقريرها واستنتاجاتها لمجلس حقوق الإنسان بصورة شفاهية بعد ٦ أشهر من الآن وفي شكل تقرير كتابي شامل في سبتمبر من العام القادم ولن تكون هناك أهمية لكيفية وصولها إلى التوصيات وما إذا كانت تحرياتها قد تمت عن طريق زيارة السودان والعمل الميداني أو إن كانت قد جمعت معلوماتها من خارج السودان.