قد يخطئ البعض حين يظن أن الاتصال بين العرب والأفارقة حديث العهد، أو أن الحواجز والبحار نجحت في الفصل ومنع هذا التواصل. فالاتصال ما بين الثقافتين العربية والأفريقية قديم قدم التاريخ.
هذا ما أثبتته دراسات عدة لا سيما حول علاقة اللغة العربية باللغات الأفريقية. إذ اتخذ التأثر الأفريقي بالثقافة العربية مظاهر متنوعة مادية ومعنوية، كان أهم أشكالها، اللغة. فالعديد من اللغات الأفريقية تأثرت باللغة العربية بأوجه شتى؛ سواء من حيث اللغة وقواعدها، أو من حيث فنونها وآدابها.
يقال إن الاتصال بين العرب والأفارقة حصل منذ نحو 5 آلاف عام قبل الميلاد، حيث اتصل العرب بالقارة السمراء عن طريق باب المندب وشبه جزيرة سيناء [1]. لكن المهتمين برسم خريطة رحلة نوع الهومو سيبيان Homo Sapiens خارج أفريقيا باعتبارها موطنه الاصلي؛ وجدوا بيانات جديدة. إذ أشارت الأدلة الوراثية والأثرية إلى أن جنسنا غادر أفريقيا لأول مرة منذ ما يقرب من 80،000 عام، حيث سافر هذا الجنس شرقاً للجزيرة العربية ثم شمالاً عبر الشرق الأوسط إلى أوراسيا [2].
وهو ما تأكد في السنوات الأخيرة، عندما اكتشف علماء الآثار أدوات حجرية في شبه الجزيرة العربية تشير إلى أن البشر المعاصرين ربما غادروا أفريقيا منذ 125000 عام عن طريق باب المندب. ثم تلا هذه الهجرة 4 موجات أخرى من الهجرات؛ وهذا ما أقره معهد ماكس بلانك الألماني الذي اكتشف آلاف الأدوات الحجرية وعظام الحيوانات، التي تشير إلى إقامة وعمل الناس القدماء في صحراء النفوذ شمال السعودية. والحقيقة أن هذه الهجرات لم تكن في اتجاه واحد؛ بل كانت في الاتجاهين. فأحفاد من هاجروا عادوا مرة أخرى إلى القارة الأفريقية، وهو ما يفسر ظواهر عدة منها التقارب الثقافي واللوني ما بين شرق وغرب البحر الاحمر [3].
هذا عن التاريخ القديم. أما التاريخ الحديث فحدث ولا حرج، بدءاً من انهيار سد مأرب، وهجرات المسلمين إلى الحبشة (إثيوبيا الحالية)، مروراً بالخليفة عبد الملك بن مروان (65-85 هـ/685- 705م) الذي كان نقطة ارتكاز في ظهور التأثير العربي في أفريقيا لكونه اتبع سياسة قائمة على الاستعانة ببعض القبائل العربية على الأخرى [4].
التأثر اللغوي
لا يعلم الكثيرون أن تاريخ مدينة كيلوا كيسواني في تنزانيا كتب عام 1520 باللغة العربية، وهذا هو المثال الأقدم الذي وصل إلينا. كما أن هناك نصوص مماثلة بالسواحيلي كتبت عن مجموعة من المدن مثل قصيدة “الرسالة” التي عرضت وجهات نظر أخلاقية ودينية.
ومن أول الأعمال التي كتبت بالسواحيلي ملحمة “قصة تامبوكا” عام 1728. كما أن هناك العديد من اللغات الأفريقية التي تستخدم الحروف العربية منها اللغة السواحيلي المنتشرة في كل من تنزانيا وكينيا وموزمبيق، وأيضاً لغة الهاوسا المنتشرة في غرب أفريقيا وجنوب نيجيريا، ولغة الفولاني شمال غرب غينيا [5].
السواحيلي.. لكنة عربية؟
وفقاً لجون دانيال، أستاذ اللغويات والأدب الكلاسيكي بكلية اللاهوت الانجيلية، فإن اللغة السواحيلي تعني من اسمها لغة السواحل باللغة العربية، وبالرغم من أنها تنتمي لعائلة لغات النيجر- كونغو، إلا أنها من أكثر اللغات المتأثرة باللغة العربية. ذلك أن أكثر من 20 إلى 35% من كلماتها عربية النطق والمعنى.
وأتى هذا التأثر بسبب التجارة مع العرب لفترات طويلة. كما أن السواحيلي لغة متأثرة بالأبجدية العربية في بداياتها؛ حيث تبنت الحروف العربية وكتبت بها، ثم تحولت للأبجدية اللاتينية. أما بخصوص القواعد النحوية؛ فقد بعدت تماماً عن القواعد العربية بسبب الغزو البرتغالي والانجليزي الذي تلاه، بالاضافة لجذور لغة البانتو، ولولا هذا الغزو لاستمر التأثير العربي في اللغة [6].
لكن سامح أنور إبراهيم بيومي، أستاذ اللغويات بجامعة الازهر، يختلف مع دانيال في مسألة تأثير اللاتينية؛ فهذا نجده في الساحل الغربي لأفريقيا. أي في دار السلام والمناطق المجاورة لها بسبب تعدد العرقيات والديانات وانتشار العرقيات الهندية وتمسك كل عرق بلغته، وعند التواصل في ما بينهم يلجأ الجميع للانجليزية. بينما في زنجبار الأمر يختلف حيث أن 99% من السكان مسلمون واحتكوا بالمسلمين منذ القرن التاسع الميلادي، لذا كان تأثرهم بالعربية أكبر [7].
كما لوحظ أن القصيدة السواحيلية اشتقت كذلك من القصيدة العربية سواء من حيث التركيب أو الأغراض الشعرية. كذلك فإن أهم قصيدة كتبت باللغة السواحيلي في الفترة ما بين القرنين الــ 19 و 20، هي قصيدة دينية اسلامية كتبها سيد عبد الله بن ناصر (1720-1810) باسم “يقظة الروح”، والتي توضح تفاهة الحياة الدنيا وعدم أهميتها؛ عبر قص أحداث سقوط مدينة بات.
وبحلول القرن الــ 19 بدأ الشعر السواحيلي بالتخلي عن محاكاة القصيدة العربية في ما يخص الأغراض الشعرية والشكل، حيث تأثرت بثقافة البانتو. كما ظهر في الأغاني الشعبية الحزينة. أما على مستوى المفردات فنجد كلمات مثل (صهيهي – صحيح)، (سيفا – صفة)، (لادَّا- لذة)، بينما تنطق الكلمات التالية بنفس النقط العربي: (سكر- شاي – قهوة – ليمون – برتقال- تمر- زيت – سمسم – دقيق – أرز –سمك – نعناع – ياسمين – عطر – عزيز – حكيم – ملك) وغيرها.
وتشمل أيضاً أسماء وأوقات الصلاة وتعابير دينية، وغيرها من الكثير من أسماء المدن والأماكن بالاضافة للكلمات الدينية مثل: (رمضان- قرآن – حلال – حرام .. إلخ) [8].
الصومالية والشعر
لا يمكن إنكار التأثير العربي في اللغة الصومالية التي تنتمي إلى العائلة الحامية، لكنها عانت من بعض النواقص أهمها أنها تنطق ولا تكتب وليس لها قواعد مع وجود بعض النقص في التراكيب. لذا استخدمت الصومالية بعض علامات الإعراب العربي في الكتابة. من هنا استعارت الصومالية من اللغة العربية ما سدت به النواقص من مفردات وتراكيب [9].
وقد أثر الأدب العربي القديم كثيراً في المجتمع الصومالي حيث استخدم في مجالات عدة من التعليم إلى التجارة، وبالتالي وصل أثر الثقافة والأدب العربيين إلى الأدب الصومالي وبخاصة الشعبي.
والباحث في الأدب الشعبي الصومالي سيجد أن العديد من القصص والشخصيات والأساطير الصومالية، تشبه القصص والأساطير العربية القديمة. هكذا انتقلت شخصية أبو نواس إلى الأدب الشعبي الصومالي تحت اسم “بين هواس” وفقاً لما يقوله سيد رشاد قرني محمد [10].
وأيضاً، استخدم الأدب الصومالي أشكالاً أدبية عربية تقليدية مثل الشعر والزجل والقصص. كما استفاد من الخبرات الفنية والأساليب الأدبية العربية. ومن أوجه تأثر شعراء صوماليين بالأدباء والشعراء العرب القدماء؛ ظهور منهج أدبي يجمع بين التراثين الصومالي والعربي.
ومن أهم الأعمال الصومالية التي ظهر فيها هذا التأثر ديوان “حديقة الأدب” للشاعر حاجي دادي الذي تأثرت قصائده بالشعر العربي الكلاسيكي، ثم “ملحمة دير” للشاعر محمد عبد الله حسن؛ حيث تناول قصصاً بطولية صومالية بأسلوب مستوحى من الشعر الجاهلي، ثم ديوان “الروح الناطقة” للشاعر عثمان محمد عثمان؛ الذي ضم قصائد تغنت بالمكونات الثقافية لكل من الصومال والعرب. وكتاب “حكايات صومالية” لمحمد عثمان حسن بوربي؛ وفيه جمع بين الحكايات الشعبية الصومالية ومصادرها من الأدب العربي [11].
ومن أهم أوجه التشابه مع الأدب العربي احتواء الشعر الصومالي على الغزل والفخر والحماس والهجاء؛ أما الأكثر انتشاراً فهو الوصف، وتحديداً وصف الطبيعة.
العربية عند الهوسا
تعتبر لغة الهوسا إحدى أهم اللغات الأفريقية؛ وهي من اللغات التشادية، التي يتحدث بها حوالي 30 مليون شخص. وتنتشر بشكل رئيسي في نيجيريا والنيجر وشمال غانا، وتستخدم كلغة مشتركة في أجزاء من غرب أفريقيا. وهناك بعض الاساطير التي تنسبهم للعرب الذين انتقلوا للسودان ثم نزحوا غرباً.
وبسؤال د. محمد علي نوفل أستاذ اللغات الأفريقية بكلية الدراسات الأفريقية حول الكلمات العربية في الهوسا، أجاب “الميادين الثقافية” أن “لغة الهوسا فيها الكثير من الكلمات العربية مثل: (حسد – Hassada) و(المعلم-Mallami) و(وليمة-Walima) و (ليمون-Limu)، وعند رصد الكلمات المشتقة من العربية عند الهوسا نكتشف أنها تصل إلى أكثر من 5000 كلمة عربية صريحة، بالاضافة لآلاف الكلمات التي تم تغيير بعض أحرفها لتتناسب مع طريقة النطق الهوساوية” [12].
أما على مستوى القواعد اللغوية فإننا سنجد تشابهاً كبيراً قد يصل إلى حد التطابق في الاشتقاقات من جذر ثابت يستخرج منه اشتقاقات كثيرة؛ وبالتالي تتعد المعاني بتعدد الاضافات. أيضاً تتشابه تراكيب اللغة العربية والهوسا. ففي حالة الجار والمجرور فإنهما يسبقان المفعول به، وأداة الإشارة قبل المشار إليه، وأداة الاستفهام. ففي أول الجملة يليها الفاعل ثم الفعل. وكذلك الحال في التأنيث؛ فتأنيث الكلمة يتم عن طريقة إضافة a للمذكر، و iya للمؤنث وكأنها مرادفة للتاء المربوطة [13].
كما أن هناك تشابهاً في تحويل الفعل الماضي لمضارع حيث يضاف للفعل za وكأنها مرادفة لحرف السين. وتشترك مع العربية في تضعيف الحرف للتأكيد مثل (karye-kakkarye)؛ كما يتكون اسم الفاعل من اضافة مقطع ma قبل الكلمة مثل حسد Hassada وحاسد تصبح mahassadi ، والمؤنث mahassadiya، أما الجمع mahassada [14].
لم يختلف الأدب الهاوساوي عن باقي اللغات الأفريقية في مدى تأثره بالأدب العربي. فهناك مثلاً الملاحم الشعبية مثل “زاوية نزينجا” التي تأثرت بأسلوب الملاحم العربية. والقصائد الشعبية مثل “ماساي وبيليو” للشاعر الهوساوي جوني تشاتي، وتحتوي على إيقاعات شعرية عربية صريحة.
بالاضافة لتأثر القصص الشعبية الهوساوية بآداب ترجمت للعربية؛ مثل “قصة الثعلب والغزال” التي تشابهت في طريقة السرد مع قصص ألف ليلة وليلة.
وفي المسرح سنجد مسرحيات عبد الله حسن مثل “عندما تغني العصافير” التي اقتبست شخصياتها وأحداثها من حكايات عربية. وكذلك روايات غويلاه حمد مثل “كفاح جديد” التي تناولت قضايا ثقافية واجتماعية مستوحاة من التراث العربي. وفي الشعر سنعثر على دواوين لشعراء متأثرين بالشعر العربي؛ مثل حامد حسن ومولاوي سعيد والتي جمعت بين التقاليد الشعرية العربية والهوساوية.
الولف والعرب
ننقل الآن إلى لغة الولف المنتشرة في السنغال ومناطق أخرى في أفريقيا ويتحدثها أكثر من 10 مليون شخص. وفقاً لتصريح كمال بشر لــ “الميادين الثقافية“، فإن لغة الولف “تمتلك 40 صوتاً منها 25 صامت والباقي صائت؛ وهي من اللغات التي تأثرت أيضاً باللغة العربية من أوجه عدة: تثبيت البنية النّحوية وتهذيبها، وإغناء اللغة الولوفية بالمفردات، وتنمية طاقتها البلاغية باستعمال المجازات والكنايات، لتنجح في وضع سلسلة من المصطلحات النحوية والقانونية والفلسفية والاقتصادية وغيرها”.
بالاضافة لكون 50% من مفردات لغة الولف من جذور عربية على سبيل المثال أيام الاسبوع (إلتن – الاثنين) (تلات- الثلاثاء) (ألرب- الأربعاء) (ألخمِيس- الخميس) (ألجُم-الجمعة) (سَمْدِ-السبت)، سنجد أثر الغة العربية في وجود مشتقات مثل (كسارة – خسارة) (السَّا- الساعة) (سُوتْرة – سترة) (سُوكْر – سكر)، بالاضافة إلى تأثر الأدب الولوفي الجلي في أشعار كل من القاضي مجخت كَلَ، والشيخ أحمدو بامبا، والشّاعر الولفي موسى كاه. فالقارئ لشعر الولف سيجده مطابقاً للشعر العربي من حيث شكل القصيدة والقافية [15].