الأزمات العضوية العاصفة في كل شبر من الحياة وبالفضاء العام للعالم ومن ضمنه فضاء دولتنا المريضة ومجتمعاتنا المتأثرة بأعراضها لا تتم وتتكاثر من جراء نفسها بل بتراكم مقدماتها وتواتر حججها واسبابها. ما يجرى منها في المأكل والمشرب والصحة البيولوجية والروحية والعقلية والأمنية لن يذهب من تلقاء نفسه بل بتفنيد ذات الحجج والاسباب. وقد تبدو الازمات في وجه صريح من اوجهها نتاجا لإعادة تدوير عوار التاريخ وغياب المسؤولية الوطنية القائدة بسبب ضعف القيادة الادارية السياسية واستسهال ادارة الدول بتغليب النزعات الفردية الانانية للحكم دون توفر الشروط الاخلاقية اللازمة.
يحدث هذا وكأنما تسنده الاعمال المشينة الماكرة لنشاطات تحالف السبحة والبندقية بزعامة رعاة منخفضات الوعي والتحضر ممن يكسبون كثيرا من اعادة تدوير التخلف كموطدين مخلصين لدعائم ثقافته. في مقابل ذلك نكاد لا نعثر للحداثيين الديمقراطيين مشروعا وطنيا موحدا ومتحدا ولا يقوم بينهم اي تحالف لدعم التطور العام والتنمية الوطنية الكلية وقد تحولت العلاقة بينهم في الاونة الاخيرة الى علاقة حرب وكراهية وشد حبل تكاد تستدعى المنبوذين ولصوص السياسة وتجارها من قبورهم المادية والرمزية لسد ما احدثه دعاة التحديث من فراغ. تسيس الوطنية والتحديث على وجه الدقة يصبح واحدة من آفات ونكبات اجتماعنا السوداني الذي يحتاج الى اعادة تأسيس بتصحيح كافة المسلمات الموروثة وخاصة مسلمة التاريخ الواحد المشترك. نحتاج ان ننتقل من ثقافة المهاجرين المستوطنين الى ثقافة المواطنين والمواطنة حتى نبتدر اعمالنا ومسؤولياتنا تجاه بعضنا البعض والوطن المشترك. بدون ذلك الانتقال والتحول الذي يحتاج الى اعتراف شجاع منا باننا قد خدعنا في نسبنا التطوري سنعمق من عادة نفاقنا المشؤومة وزعمنا العريض المثقوب باننا شعب واحد.
السياسة المغرضة والشعر الحالم والخطاب والغناء الثوري الرومانسي ومجافاة التفكير النقدي الواقعي صنعوا اسطورة الشعب الواحد بدلا عن دعم واقع وحدة الشعوب السودانية المتفرقة منذ القدم، على اسس جديدة. نحتاج الى اعادة الثقة الى النفس والانشاء لسياسات مبتكرة دائمة ونبذ الغش وصناعة الاكاذيب الجميلة عن انفسنا وتجربتنا المعاصرة – نحتاج الى اعادة الاعتبار للعقل والقدرات المتجاوزة بنبذ العقلية الادبية منتجة الخطابات التبشيرية المرسلة العودة الى عقلية تنمية الارض وبناء الحضارة المادية الفعلية التي صنعت ذات يوم من الايام بتاريخنا القديم اعظم ممالك العالم والحضارات وكانت لها الريادة في الصناعة والمعمار قبل ان تحل ثقافة الدمار والتدمير وتزوير الهويات على ايدي المهاجرين الجدد وتحالفهم مع همج الدولة السنارية وما تلاه من انكار للأبوة الحسنة والجذور الخلاقة الملهمة. وحتى نغادر لعنة ما عرفت بالسلطنة الزرقاء ومنشآتها التاريخية من عقابات العقل ومقيداته علينا الانخراط في تفكير نقدي تخطيطي مؤسسيي ينزع الى تأسيس الدولة المتعددة المراكز الحضرية الحديثة القوية بتنوعها واقتصادياتها شبه المستقلة والمستغلة بأبداع لثرواتها ومواردها المادية والبشرية.
قراءة الازمة الضاربة الحالية لا تتم بمعزل عن تحليل بؤس التاريخ ولعنات الماضي والتخلي عن المزيد من فخاخ التكوين الخاص والعام الذائع الشائع وتفكيك المسكوت عنه وابرازه بفكر نقدي مصادم وليس بمهادنات وتصالحات انتجت افدح نتائجها الممثلة في الثنائية القاتلة للتطور والتفكير والتي عززتها مؤسسات الدولة الثنائية والبريطانيون خاصة لضمان عدم انفلات التطور المحافظ رغم حدوثه في بعض النماذج السياسية وخاصة في اليسار الذي وبعد حوالى السبعين عاما تقريبا من تأسيس حلقاته ومؤسساته لا يزال في منتجه الفكري سياسيا بامتياز فاقدا لتعدد مدارسه الفلسفية والنقدية فعاد محافظا ومؤطرا لعدم قبوله التغيير الهيكلي البنيوي وفق التطورات التي ضربت اركان العالم وعبثت بأرجاء المعمورة فأصبحت تستدعي اعادة قراءة واقعه قبل الواقع العام الدولي والسوداني الخاص.
ان ما خلف العجز الإداري الحالي للدولة ليس فقط انقلاب على المرحلة الانتقالية بل عجز سياسي بامتياز يستوجب مساءلة المحمولات الفكرية ذات المصلحة والصلة بمستقبل ديمقراطي للبلاد.