تهدف هذه المقالة لسبر أغوار العلاقة العضوية بين مؤشرات ومظاهر تخلف وتأخر إحداث عملية التنمية افقتصادية والإجتماعية والتغيير الكبير في طبيعة بنية وواقع حركية مجتمع المناطق الطرفية في السودان، بصورة عامة، ومخرجات التخطيط التنموي الاجتماعية والاقتصادية ، والأسباب التي قعدت بهذه هذه العلاقة وتركتها تتحرك في إحداثيات سكونية منغلقة الدائرة، و تعيد إنتاج نفسها بصورة ساهمت إلى حد كبير في الحد من الانتقال من مجتمع القبيلة ومؤسساتها البنيوية والوظيفية ونمط الاقتصاد الاكتفائي الذاتي (المعيشي) إلى المجتمع المدني الحديث بمختلف مظاهره ومؤسساته. دراسة هذه العلاقة في الإطار العام للأدبيات الفكرية والثقافية والمادية لآليات ومخرجات التخطيط التنموي في السودان، في محاولة لإيجاد تفسير يعتمد على تحليل ثنائية القطيعة والتواصل الممكن بين هذا الإطار، ودرجة استعداد هذه المناطق للتفاعل مع عملية التغيير، ومدى سعة أفق آليات و مواعين التخطيط التنموي وفعالية منهجها في الوصول إلى والتعامل مع ذلك الواقع ، ذلك أنها ظلت تعمل بانتقائية تتخفى وراء ما يمكن أن يحجبها من انقطاعات أدت إلى تبلورها في حالة شبه سكونية رسخت في أذهان سكان المناطق الطرفية فحواها أن استحواذ المركز في السودان على السلطة والثروة أدى إلى تركيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية والبنيات التحتية في ولايات الوسط وخاصة الخرطوم والجزيرة بينما تركت المناطق الطرفية ترزح تحت التخلف الاجتماعي والاقتصادي والنقص الحاد في الخدمات الأساسية والبنيات التحتية .
من الواضح أن السمات العامة التي يتسم بها مجتمع المناطق الطرفية هي سمات المجتمع الريفي المتخلف بشقيه الزراعي والرعوي المتحكم فيه نمط الاقتصاد المعيشي و المتسم بسيطرة واضحة لمؤسسات قبيلية ذات قيم وعادات وتقاليد قوية وراسخة ومقاومة للتغيير ومتوارثة جيلاً عن جيل ، وفي موازاة ذلك نجد أن التغييرات السريعة والكاسحة في العالم بما فيها من عولمة وثورة اتصالات وتغير في القيم والمفاهيم والثقافات قد رتب لتأسيس نوعاً مؤثراً من التواصل مع العالم الخارجي، دفع إلى المقارنة مع المحيط الخارجي ونمط الحياة المتقدمة التي يعيشها ذلك المحيط قياساً بالواقع المتأخر الذي تعيشه هذه المجتمعات ، الأمر الذي أدى إلى تحول كبير في مفاهيم وثقافة وطموحات ونظرة سكان هذه المناطق إلى واقعهم ومحاولة الإنعتاق من ربقة تخلفهم ، بل وتكلسهم في مرحلة متأخرة من التطور الاجتماعي والاقتصادي، وأيضاً مقارنة ذلك على المستوى المحلي مع بقية ولايات السودان وخاصة ولايات الوسط التي هي أفضل حال نسبياً عن الأطراف ، الأمر الذي دفع للتعبير عن كم هائل من الاحباطات المتراكمة تاريخياً بصورة كثيفة في شكل الحركات السياسية المطلبية الجهوية، وأخيراً أخذت منحاها العنيف الذي انعكس في الحركات السياسية المسلحة للإعلان عن رفضهم لهذا الواقع.
إن أي مجتمع يحمل في داخله أنساق وأسباب تطوره وتخلفه بما يشئ به من تبديلات وتغيرات تفضي إلى صيرورة بنائه صعوداً وهبوطاً ، و تسعى هذه المقالة لأن تعطي صورة واضحة لواقع الحال في مختلف الولايات الطرفية بالسودان ، كما أنها تنطلق من رؤية شاملة اعتمدت المقارنة مع ولايات الوسط (الخرطوم والجزيرة) متى كانت ضرورية، وذلك للكشف عن الواقع وإماطة اللثام عن جدليات العلاقة الوظيفية بين الجزء والكل بما احتوته من مظاهر الاستحواذ والتهميش ، أي علاقة ما يسمى بالمركز والأطراف ، وذلك من خلال أسئلة محورية شكلت جملة من التساؤلات ، كما أنها أفردت حيزاً مقدراً لدراسة ظاهرة المؤسسة القبيلية ، كقوة اجتماعية رئيسية، ودورها في صياغة الحياة اليومية لسكان هذه المناطق واتجاهات تطورهم، في إطار مقاربة واقعية لما يشبه التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمناطق الطرفية في السودان ونظرتها للمركز، في ظل استمرار المؤسسة القبيلية في تطوير أدوات وآليات إعادة إنتاج بنيتها وتأمينها من التفكيك، و ذلك في إطار المصالح الفردية والجماعية وهيكلتها بما يواكب التغيرات في المحيط الخارجي، وأيضاً في ظل الملكية القبيلية التاريخية للأرض.
تسعى هذه المقالة لتوضيح دور النخب في التأسيس للدولة القومية ودور التعددية العرقية والدينية واللغوية والثقافية في تأطير البنيات والمواعين التي تستوعب هذا الموزاييك لصالح التعايش المبني على المواطنة وقبول الآخر
في هذا الجزء من هذه المقالة نحتاج لتعريف إجرائي لبعض المصطلحات من خلال الإطلاع على عدة مصادر مختلفة وذلك حتى نتمكن من تعريف المصطلح بصورة دقيقة .
التهميش: Marginalization
يقصد به التجاهل بقصد أو بغير قصد لمنطقة جغرافية مأهولة بالسكان وعدم إدراجها واستثنائها ، من الخطط التنموية الاجتماعية والاقتصادية القومية بصورة مكررة ولفترة زمنية ليست بالقصيرة ، لأسباب جغرافية أو بسبب نقص الموارد أو لأسباب جهوية أو قبلية أو دينية أو سياسية أو فكرية أو لغوية أو عقابية أو على أساس النوع أو العنصر مما سبب تخلفاً اجتماعياً أو اقتصادياً أو بيئياً في تلك المنطقة.
نقاط الالتقاء الاجتماعي: Social Communication Points
هي الأجسام والقنوات التي يتم من خلالها التواصل بين أفراد المجتمع خارج إطار المؤسسة القبيلية أو الدين أو الجهة مثل المدرسة والنقابة والمصنع والنادي وفريق الكرة والحزب السياسي ومؤسسات العمل التطوعي والجمعية التعاونية وكل ما يرتبط بمؤسسات المجتمع المدني الحديث من نقاط الالتقاء والتواصل الاجتماعي والتي يتصل وجودها وتطورها بتطور المجتمع إلى المدنية والتحديث.
المؤسسة القبيلية: Tribal Institution
نعني به التشكيلة الاجتماعية –الاقتصادية لمجموعة عرقية تعيش في رقعة جغرافية خاصة وتمتاز بنظام اجتماعي وسياسي وقضائي وتراث ثقافي مشترك و يرأس هذه المجموعة زعيم القبيلة وتتصف حياتها بالبداوة والعصبية العرقية . ولعل التعريف الأكثر اقترابا من استخدامنا لمصطلح المؤسسة القبيلية في هذاه المقالة هو ما أورده محمد الصبح الذي عرف القبيلة بأنها ” مجموعة عشائر أو جماعات إنسانية , ولها أرض مخصصة وألفة مشتركة بين عشارها وقراها , كما تتمتع كذلك بثقافة واحدة . قد يكون لها سلطة سياسية ومركزية موزعة على العشائر والقرى وترتبط القبيلة مع بعضها بصلات قرابة وواجبات قوية, يسودها التضامن الاجتماعي وأن هذه الصلات تلقي عليهم مسئوليات مشتركة وتحملهم واجبات الدفاع عن أرضهم وشرفهم وعاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم المشتركة ”
عملية التغيير الكبير The big change
الأفكار والفلسفات والخطط الاجتماعية والاقتصادية التي يتم بموجبها ومن خلالها النفاذ للمجتمعات المحلية الريفية وخاصة في ولايات السودان الطرفية، والتي تعاني من واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي متأخر في تطوره وذلك, بغرض تنميتها وتطويرها لإلحاقها بركب الحياة المدنية الحديثة وحتى مجتمع الرفاهية.
المناطق الطرفية:
يقصد بها في هذا البحث الولايات التي تقع في أطراف السودان الجغرافية البعيدة عن وسط السودان الذي تمثله ولايات الخرطوم، الجزيرة، النيل الأبيض وسنار والتي نالت حظاً من التنمية والخدمات ميزها عن غيرها من الولايات.
لعل من المسلم به ، أنه حين مناقشة عملية التغيير الاجتماعي والاقتصادي في أي مجتمع ، يبقى لزاماً ، دراسة القوى الاجتماعية الفاعلة المختلفة ودورها في عملية التغيير، وموقعها من التحكم والسيطرة على البيئة الاجتماعية والسكان، ومدى قدرتها وتأثيرها على ما يجري من أحداث ، والقدرة على القيادة واتخاذ القرار، وأحيانا الصمود في وجه المقاومة إن وجدت.
وقد ذهب هاولي في إطار تأكيده لأهمية دراسة القوى الاجتماعية إلى القول:
” كل فعل اجتماعي هو في الحقيقة ممارسة لقوى، وكل علاقة اجتماعية هي في جوهرها مسألة قوى، وكل تنظيم اجتماعي هو في الواقع تنظيم لقوى”.
في هذه المقالة حينما نشير للقوى الاجتماعية المختلفة وعلاقتها بعملية التغيير ، فإننا نعني بذلك القبيلة والمؤسسة القبيلية، وتأثيرها على البيئة الاجتماعية و علاقتها بحركة التطور، والتأثير على ما يجري من أحداث وما يتخذ من قرارات ، وكذلك تأثيرها على مجمل العلاقات الاجتماعية وأنماط التفاعل التي تربط بين مجتمع المناطق الطرفية بالسودان وغيره من المجتمعات الأخرى داخل وخارج ، وتثبيت نفسها كواقع متحوصل، وفي مقابل ذلك مناقشة مدى قدرة وتأهيل مؤسسات المجتمع المدني الحديث أو مؤسسات الدولة المدنية الحديثة, كقوى موازية على اختراق هذا الواقع ؟ وهل تمتلك مؤسسات الدولة الحديثة الأدوات والأفق والإرادة والفكر التنموي و التخطيطي الكافي الذي يفضي إلى التغيرات الكبرى في بنية المجتمع، و ما تحتويه من علاقات ونظم، بما يحدث تغيرات جوهرية اجتماعية واقتصادية وسياسية، وتنشئ نقاط التقاء اجتماعية جديدة ، ونظرة جديدة أيضا لعلاقة السكان بالأرض بعيداً عن القبيلة والجهة والعرق بما يؤمن الدولة القومية و الحفاظ على وحدتها وبقائها واستمراريتها إضافة إلى دور النخب في توجيه وقيادة الحركية الإجتماعية والحركة السياسية والفكر والمفاهيمية وحركة الوعي الإجتماعي نحو التغيير الكبير، يتزامل ذلك مع الأثر السلبي المنتج من مشروع الإسلاميين الظلامي الذي استمر ثلاثون عاما وانتهى بثورة 19 ديسمبر 2019.
إن الساحة السودانية بعد ذهاب نظام الاسلاميين أضحت مسرحا لمقولات نظرية متعددة حول نظرية المركز والأطراف ومسطلح التهميش وتوافق أو خلاف بعض المهتمين من السودانيين مع هذه الأفكار فيما يتعلق بصراع المركز والأطراف ومفاهيم التهميش, ومدي تنزل ومطابقة هذه النظريات لواقع الحال في السودان, والمتغيرات الدولية الحديثة فيما يتعلق بالنظام الدولي الجديد بعد انحسار مجريات الحرب الباردة, وخمود بريق الماركسية بعد انهيار الكتلة الشرقية, وعودة النقاش مجدداً لطاولة البحث عن جذور الأزمات المجتمعية في العالم الثالث , من خلال أطر نظرية تستلهم التراث العالمي في مجال النظريات الاجتماعية للتنمية بما لا يتجاوز الواقع والمعطيات المحلية, بما فيها من ثقافة وتراث وعادات وتقاليد وتطور تاريخي وقيم .
تأسيساً على ما سبق ، يبرز واحد من الأسئلة المحورية الهامة في حيثيات هذه المقالة وهو : إلى أي مدى أثر سيطرة المؤسسة القبيلية وملكية الأرض وديار القبائل ، على مفاصل الحياة في مناطق السودان الطرفية و؟ وما مدى التأثير الواقع من جراء ذلك على مجمل العملية التنموية واتجاهات تنمية المجتمع والتحول إلى المجتمع المدني الحديث؟
هناك معطيات في سياق التطور التاريخي للمفاهيم والنظريات العلمية بتقاطعاتها المتداخلة مع فرضيات مجتمع العولمة، و تناقضات ذلك مع الحدود الجغرافية والدولة القطرية وفرضية الثقافة العالمية الواحدة بما يصبو له من تأسيس واقع اجتماعي افتراضي بشكل جديد أقرب إلى الازدواجية التي تتمظهر في شكل يتراوح بين الواقعية والفصم الاجتماعي، ونقصد بذلك التنازع بين المؤسسة القبيلية التي تشد المجتمع إلى شروطها بكل تعقيداتها، والمعطيات الهشة للحياة المدنية، كنتيجة حتمية لضعف مؤسسات الدولة المدنية الحديثة، كل ذلك في ظل مقاربات مفاهيمية واستراتيجيات دولية وإقليمية متنافسة ومتسارعة وتملك القدرة على الاختراق والاستقطاب بل والضغط للتأسيس للواقعية الاجتماعية العالمية الافتراضية أو فلنسمها الخيالية، وإسقاطها في مجتمعات تعاني كل أمراض وويلات التخلف والتأخر الاجتماعي والاقتصادي، ذلك أن السير في طريق التقدم نحو التغيير الكبير، يحدث صراعاً في عدة محاور، وعلى مستويات مختلفة، و بمختلف أجندتها ومستويات تأثيرها ، لم يعد الصراع داخلياً وعلى المستوى المحلي فقط ، بل تداخل فيه المحلي بالإقليمي والدولي، بل وحتى الفكري و الاستراتيجي، بدءاً من صراع النخب على المستوى المحلي والصراع الإثني والقبيلي مروراً بالصراع القبيلي/ القبيلي إلى صراع المركز والأطراف والصراع الدولي حول مراكز النفوذ والثروات، وليس بعيداً عن صراع الحضارات على المستوى الكوني ، كل ذلك تحت مظلة آليات العولمة، التي تعمل بكل ما لها من إمكانيات وقدرات من أجل ثقافة عالمية افتراضية واحدة تلغي الآخر وتجعل العالم أكثر انسجاما مع شروط ونمط حياة المجتمع الغربي المعاصر.
إن الصراع من أجل التقدم الاجتماعي والاقتصادي في مختلف المناطق الطرفية بالسودان قد تم تنشيطه وتفجيره جبريا، ولو لم يتم تفجيره لتفجر من تلقاء نفسه بفعل ما يحيط به من مؤثرات داخلية وخارجية، كما إن المعطيات البائسة والفقيرة للتخطيط التنموي في دولة ما بعد الاستقلال في السودان، وخلال مسيرته التي امتدت لأكثر من نصف قرن، خلقت واقعاً تعباً ومثيراً للغبن في ولايات السودان الطرفية ، وتم التعبير عنه بطرق مختلفة وإن حملت في جوفها كثيراً من الدلالات الخافية والمرئية ، ذلك أنها وإن تبدت في ظاهرها كصراع بين المركز والأطراف يأخذ طابعه السياسي والفكري الواضح على مستوى النخب و المثقفين ، وله امتداداته في العمق الإقليمي والدولي، إلا أنه في نفس الوقت وإلى حد كبير، هو صراع مؤسسات الدولة الحديثة مع القبيلة و المؤسسة القبيلية، وغير بعيد عن صراع النخب للإنفكاك من أسر القبيلة وسيطرتها كنقطة التقاء اجتماعي ، إلى رحاب نقاط التقاء اجتماعية جديدة، هي الحركات السياسية المسلحة لتحرير المجتمع من التخلف، في ظروف دولية لا تعترف بحركات التحرر ولا تتعامل مع مصائر الشعوب إلا من خلال منظار واحد، هو خدمة مصالحها الدولية في الزمان والمكان، وفق معايير مدروسة تماماً وخطط معدة سلفاً ومفاهيم عالمية افتراضية ينبغي لها أن تسود حسب رؤية وفكر وثقافة موحدة تهيمن عليها الثقافة الغربية ، وكل ذلك يتم في ظروف محلية وإقليمية صعبة و بالاعتماد على قاعدة اجتماعية بدوية ، نسبة الأمية وسطها عالية، وتسيطر عليها مؤسسة قبيلية بينها وبين المثقفين منافسة وتنازع في الولاء وأحيانا قطيعة.
في خضم هذا الوضع البالغ التناقض والتعقيد , هل ينسجم إسقاط ومناقشة مفاهيم مثل صراع المركز والأطراف على هذا الواقع، بما يؤطر لنقاش يسهم في إبراز واقعية جديدة في قالب وإطار يعبر عن رؤى وآفاق متقدمة بخلاف المعطيات الماثلة أمامنا في المركز نفسه وأطرافه إذا جازت التسمية؟ وهل يمكن اختصار ذلك بصورة مقبولة في مصطلح التهميش المستخدم بكثافة في أدبيات الاجتماع والاقتصاد والسياسة وعند كثير من المثقفين والأكاديميين , بل والناس العاديين , لتأطير وقولبة الواقع الذي بات يحكم التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية المسيطرة على معظم الأطراف في السودان، ونعني بها المؤسسة القبيلية وما يقابلها من مرتكزات هشة لمؤسسات الدولة المدنية في المركز، بما تتسم به من الضعف وعدم القدرة على التأثير والاختراق في مجتمعات الأطراف، وقيادتها على طريق متطور ولاحق من خلال خلخلتها واحتوائها وتذويبها وفك أسرها من فرضيات ثبات الحياة في كيانات قبيلية منغلقة على نفسها بصورة سكونية تعيد إنتاج ذاتها بصورة أقرب للخلدونية.
نحاول في هذه الجزئية المساهمة في مناقشة الحيثيات أعلاه وخاصة موضوع علاقة المركز والهامش ، الذي يتم مناقشته شفاهة على نطاق واسع والتنظير له من قبل الباحثين والمهتمين على النطاق المحلي، بغرض الوصول للأسباب التي قعدت بما يسمي المناطق المهمشة عن اللحاق بركب التطور والمدنية في السودان، ومدى مسئولية التهميش كخطيئة يفترض أنه تم ارتكابها من قبل المركز, وذلك لتقرير مدى صحة أو خطأ تعميم مفهوم التهميش وتطبيقاته التحليلية والمفاهيمية وتطورها التاريخي، كمرتكز أساسي لتفسير مسار و صيرورة التخطيط التنموي بالسودان وإفرازاته من مخرجات والمتهمة بأنها أثرت على مجمل التطور الاجتماعي والاقتصادي في المركز وأخذت بيده، في حين تركت الأطراف في حال سكون ذي تاريخ دائري لا ينفك من إعادة إنتاج التخلف، وكيف لنا أن نفسر سيادة نمط الاقتصاد الاكتفائي البسيط في الأطراف وهل هناك مبررات إجرائية لذلك؟ و ما هو الدور الذي ظلت وما تزال تلعبه القبيلة والمؤسسة القبيلية كقوة اجتماعية واقتصادية وسياسية فاعلة ونشطة ، تمتلك أدواتها وفكرها وسطوتها وأحياناً الشرعية والقدسية المستمدة من حقها التاريخي؟ وهل للمؤسسة القبيلية أي دور في إعاقة عملية التغيير الكبير، وتأخير عملية الانتقال للمجتمع المدني الحديث في المناطق الريفية الطرفية بالسودان بصورة عامة؟
الواقع أن كثير من الباحثين في قضايا المركز والأطراف بالسودان يعتمدون مصطلح المناطق المهمشة للتدليل على فعل مقصود من قبل حكومات المركز و نتج عنه التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للأطراف، وباعتبار التهميش أحد المصادر الرئيسية لظاهرة اللا مساواة، وأيضاً للتدليل على الحرمان عن قصد من الانخراط والاندماج في الحياة الاجتماعية الحديثة والمتمدينة، والذي يمارسه المركز من خلال استحواذه على السلطة والثروة ، غير بعيدين عن الاعتقاد في نظرية المؤامرة والفعل والفاعل، وكما أن الماركسيون الجدد من رواد نظرية التبعية, قد قطعوا بأن واقع عملية تنمية الأطراف غير عادل وغير متوازن, وأن العملية التنموية برمتها غالباً ما تتجاهل الأطراف الريفية وتأخذ تمركزها في المناطق الحضرية و ترمي بالريف في محيط التخلف والفقر المدقع وهذا ما بات يعرف الآن بنظرية المركز والهامش .
وحقيقة إن عدم وجود خطط قومية بشأن التنمية الاجتماعية والاقتصادية المتوازنة من شأنه أن يؤدي إلى تنامي واتساع الهوة بين المناطق التي حظيت بمشاريع منحتها درجة من النمو، والأقاليم الأقل حظوة، مما يدفع إلى تراكم تاريخي لحالة من الشعور بالتهميش والإهمال والغبن التنموي لدى سكان المناطق والأقاليم الأقل نمواً.
على أن كثير من المهتمين بقضايا التنمية يرجعون تخلف المناطق الطرفية في مناطق كثيرة من العالم إلى فكرة التهميش وقد أصبح هذا المصطلح شائعاً في أوساط الحركة السياسية السودانية خاصة وسط الحركات المسلحة الجهوية.
يؤكد على ذلك جمعة كندة من الناحية النظرية ويذهب إلى أن ,مفهوم التهميش والأقاليم المهمشة ليس مفهوماً سودانياً كما في أذهان الكثير من الساسة في السودان , بل هو مفهوم عملي وتطبيقي ونظريات اجتماعية واقتصادية وسياسية أهمها نظرية المركز والهامش. وتتركز هذه النظرية في أن الموارد الطبيعية في العالم موزعة توزيعاً غير منتظم وأن الموارد المتاحة لأي مجتمع دائماً وفي أي مرحلة من مراحل تطوره, هي موارد تتميز بالندرة مقارنة بالاحتياجات والطموحات.
نعمات كوكو محمد : مديرة مركز الجندر للبحوث والاستشارات بالخرطوم تذهب في تفصيل أكثر وتؤكد أنه بالنظر إلى نظرية التهميش نفسها نجد أن خلافاً واضحاً في تعريفها ومضمونها, فهناك من يعتمد نظرية التهميش التي تقوم على علاقة المركز بالأطراف وهي مدرسة أكاديمية تقوم على الجغرافيا الاجتماعية. وهناك من ينظر إلى التهميش في إطار الصراع لاجتماعي – السياسي وكيف أنه يكرس لهيمنة قوى اجتماعية على حساب قوى أخرى. وفي رأيها أن حال السودان يعكس أن التهميش هو تهميش اجتماعي – اقتصادي طال السودان كله نسبة لغياب خطط التنمية المتوازنة, وعدم القسمة العادلة لموارد البلاد وثرواتها. وهو أحد أهم العوامل التاريخية لأزمة السودان السياسية منذ الاستقلال الوطني في عام 1956. إضافة لغياب الديمقراطية والمشاركة الحقيقية لأبناء الشعب السوداني نساءً ورجالاً عبر تكويناتهم ومنظماتهم التي تقوم على خياراتهم
ويرى الكاتب في ورقته حول آلية الصراعات القبلية بجنوب دارفور المنشورة بدورية كتابات سودانية أن: مصطلح التهميش يستخدمه الآن الكثيرون بصورة فوضوية وضارة بقضية التنمية والوحدة الوطنية والأمن القومي, في محاولة لوصف أسباب التخلف في مناطقهم, ولا يغيب عن الملاحظة الدلالات السياسية و الجهوية، الأمر الذي يزيد تعقيداً لواقع هذه المناطق المعقد أصلاً.
يأتي وصف المصطلح بعدم الدقة في حيثياته و الجهوية والفوضوية في استخداماته, من أنه مصطلح فضفاض ولا يخدم الشق الإيجابي في قضية الوحدة الوطنية والأمن القومي كما أنه يشكل لغماً جهوياً يمكن أن ينفجر في أي لحظة فينسف الاستقرار ويشيع الفتنة وأنه يخضع للتقديرات الذاتية للذي يستخدمه.
المعروف أن هذه المناطق التي تنعت الآن بلفظ المناطق المهمشة , قد مرت بظروف اجتماعية واقتصادية وبيئية عبر تطورها التاريخي , هي التي ساهمت في تشكيل الواقع المتخلف الذي تعيشه الآن.
في السياق نفسه يضيف د. حيدر إبراهيم علي أن نقل بعض السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين في السودان هذه العلاقة( علاقة التبعية) لوصف وضعية التخلف والتنمية المشوهة التي تسود البلاد منذ الاستقلال. وبكثير من المجاز والرمزية, صارت العاصمة الكبرى والوسط النيلي مركزاً, وبصورة انتقائية أصبح الجنوب والغرب والشرق هامشاً, رغم تخلف أجزاء من الشمال الأعلى والوسط (الجزيرة)، وفي ذلك يعترض على تبني القوى السياسية غير التقليدية الممثلة لتلك المناطق مفهوم التهميش.
على أن اتفاقية السلام الشامل الموقعة بين حكومة جمهورية السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان قد نصت على مبادئ موجهة بشأن الاقتسام العادل للثروة العامة كما يلي:
” يكفل تقسيم وتوزيع الثروة الناتجة عن موارد السودان تعزيز الحياة و الكرامة والظروف المعيشية لكل المواطنين بدون تفرقة على أساس النوع أو العنصر أو الدين أو الانتماء السياسي أو العرق أو اللغة أو الإقليم. ويقوم اقتسام وتخصيص هذه الثروة على مبدأ أن كل أجزاء السودان لها الحق في التنمية”.
لا أحد يستطع إنكار الحرمان الاجتماعي وانعدام التمتع بحياة مليئة ونشطة عند غالبية السكان في مختلف أنحاء السودان، بحيث أنهم لا يحصلون على سلع وخدمات أساسية وحقوق مواطنة كاملة أهمها حق العمل والتعليم والعلاج ونقاط الالتقاء الاجتماعي المتقدمة، ذلك أنهم لا يعيشون في مجتمع تتوافر فيه عناصر التكامل والاندماج , بل يعيشون مجتمع الفقر والجهل والمرض والفاقة والمعدلات العالية من الجريمة وسوء مرافق الإسكان وقلة الفرص المتاحة، ويظهر ذلك واضحاً جلياً من خلال تناول واقع مخرجات التخطيط التنموي كحالة من حالات التخلف في ولايات السودان الطرفية من حيث جودة ونوعية الخدمات والبنيات التحتية .
ما تم إثارته أعلاه من ومناقشات يكمن في جملة التساؤلات التي استقاؤها من خلال الأدبيات والأحكام الشائعة في مختلف الأوساط الأكاديمية والسياسية والثقافية والشعبية المتعاملة مع موضوع المقالة جزئياً أو كلياً كما أن الملاحظة كانت جزءاً من ذلك.
يتميز المجتمع السوداني بمجمله بتشكيلة من المتناقضات والتعدديات والجدليات بشكل لافت في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، حيث يشكل حضور التقليدية والعصرية, البساطة والتعقيد, القديم والحديث، أنماط تتعايش مع بعضها جنباً إلى جنب وتتمازج وتتداخل مع بعضها، مما يدفع للتساؤل: إلى أي مدى يشكل ذلك خصوصية تتسم بها حركية المجتمع وتشكيلته الاجتماعية والاقتصادية وصيرورة تطوره؟ وهل تمثل جدلية وحدة وصراع الأضداد دوراً في فهم خصوصيات التطور الاجتماعي والاقتصادي في السودان، بما ينأى بنا بعيداً عن الاعتماد على التحليل الأحادي أو التفسير الاسقاطي المنطلق من المفاهيم والمقولات المستقاة من واقع ثقافي وفكري وحضاري مغاير لا يتناسب وواقعنا.
الواقع أن المقالة تحدثت في بدايتها عن الدور الذي لعبه الاستعمار في تحديث البنية الاجتماعية والاقتصادية للسودان القديم، وإعادة بنائها وتشكيلها لخدمة الأهداف العليا للدول المستعمرة، ومحاولات بناء المجتمعات المدنية الحديثة وفق خطط تنموية تبلورت في أشكالها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عرضنا لها، إلا أن ذلك لم يسهم كثيراً في تفكيك المؤسسة القبيلية التي كانت سائدة تاريخياً، وتذويبها في مؤسسات الدولة المدنية الحديثة، بل أطر لها وعمق جذورها واستخدمها كأدوات لتكريس قبضته على البلاد، وبلغ ذلك ذروته في فترة الحكم الإنجليزي المصري حينما أعطي المستعمر الشرعية للقبائل في تكريس استمرارية الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية للمؤسسة القبلية، وأمن على الإدارة الذاتية للقبائل ، وأعطى الشرعية للحواكير وديار القبائل، واستخدم سياسة فرق تسد واستن قانون المناطق المقفولة كل ذلك من أجل خدمة الأهداف العليا للدول المستعمرة.
إن ضعف وهشاشة مؤسسات الدولة المدنية الحديثة الموروثة عن الدولة الاستعمارية، والتي بقيت كما هي بكل مكوناتها الثقافية والفكرية والفلسفية في سودان ما بعد الاستقلال، ولم يتم تطويرها وإعادة صياغتها بما يتماشى مع الوضع الجديد ، بل أنه لم يكن هناك حتى مجرد التصور والتفكير في اجتراح طريق مغاير يقود إلى إحداث الموازنة المطلوبة بتمكين هذه المؤسسات بالقدرة على التأثير في الريف وإحداث التمدد الإيجابي في داخله، أدى ذلك لاستمرار الانغلاق المجتمعي والتكريس لتقوية المؤسسة القبيلية واستمراريتها، بما يشبه المقاومة لمؤسسات الدولة الحديثة ونظمها ومفهوم المشروع الوطن و الوطن القومي، ويظهر ذلك جلياً في ملكية الأرض وديار القبائل، ففي الوقت الذي يقرر القانون مشاعة الأرض في الوطن الواحد ، وأن للجميع الحق في استخدامها والتمتع بخيراتها وفقاً لقانون قومي، تقرر المؤسسة القبيلية أن للقبائل حقها التاريخي في ديارها وحواكيرها وليس لأحد غيرها حق في ذلك وكأنها تنفي الآخر.
الواقع أن التغيير الكبير الذي كان مأمولاً فيه في الأطراف عقب الاستقلال لا يتم حقيقةً أو يتم ببطء شديد, يناظره في المقابل السكون والتمحور على الذات في البنية الاجتماعية لمجتمع الأطراف، والتمكين لسيطرة المؤسسة القبيلية بكل قيمها وعاداتها وتقاليدها وموروثاتها ونظم الحكم والإدارة والعلاقات البينية وانغلاقها على نفسها.
وإذا تتبعنا المشاركة التفاعلية للقبائل على مستوى الوطن الكبير, نجد أن قرابة الدم والعلاقات القبيلية تشكل حجر الزاوية في ذلك، خاصة في ظل الافتقاد للديمقراطية وفرص الحوار والعدالة المجتمعية، لذلك تلعب المؤسسة القبيلية دوراً مهماً في تثبيت وإعادة إنتاج وتطوير ومحورة الأسس القانونية والسياسية والمادية لحقوقها التاريخية كنوع من المقاومة الصارمة للخضوع لمؤسسات الدولة الحديثة وتثبيت مشروعيتها، مما يدعو للاعتقاد في أن سيطرة المؤسسة القبيلية وانغلاقها وعصيانها على عملية التغيير الكبير هو أحد ركائز ظاهرة التخلف الجهوي يدعم ذلك ضعف وهشاشة مؤسسات الدولة المدنية الحديثة وفقر فكرها وآلياتها في التخطيط التنموي من أجل إحداث التغيير الكبير ,.
وتتمظهر قوة وسطوة القبيلة والمؤسسة القبيلية وقدرتها على البقاء والتأثير ، بل قيادة وتوجيه المجتمع بصورة واضحة في أوساط المتعلمين والمثقفين، إذ تشكل صلة الدم والقرابة والعلاقات القبيلية مرجعية أساسية بالنسبة لهم لتبوء المناصب الدستورية أو الدخول للأجهزة التشريعية والتنفيذية حيث يصعب ذلك كثيراً دون دعم قبيلي وتأييد من ذوي القرابة، أو عبر التوازنات والتنازلات والصفقات والاتفاقات القبيلية، وحتى داخل الأحزاب و التنظيمات السياسية، فإن الدعم يتم من خلال الانتماء القبيلي و الجهوي، وذلك ارتبط كما ذكر سابقاً بضعف فرص الحوار وفقدان العدالة المجتمعية, لذلك يلجأ الأفراد مهما بلغت درجة أهليتهم وتعلمهم واستنارتهم للمؤسسة القبيلية، بحثاً عن الأمن والأمان وطلباً للاستقرار وتحقيق الطموحات ولمواجهة مظاهر الخوف والظلم والاحتياج, وقد ساعد نمط مؤسسات البنية الفوقية، بما فيها من أحزاب ومؤسسات دولة في تأخير تفكيك البني المجتمعية التقليدية وإحلال بني وعلاقات حديثة مكانها، ذلك أنها فشلت في خلخلة المؤسسة القبيلية وطرح نفسها كبديل متقدم، قوي و مقبول اعتماداً على شرعيتها السياسية بعد الاستقلال، بل حدث العكس وبدأت تتشكل الكيانات القبيلية والجهوية مثل مجالس شورى القبائل والكيانات الجهوية مثل كيان الشمال وجبهة الشرق والاتحادات التي يتم الانتماء لها من منطلق العرقية مثل إتحاد أبناء جبال النوبة ومؤتمر البجا وغيرها ، ووصلت النخب في أعلى مراحل تمظهرها، إلى استبدال شرعيتها وأهليتها السياسية المستمدة من الكفاح من أجل الاستقلال وكفاءة انتمائها القومي، بتوظيف العصبيات القبيلية الجهوية والطائفية لإثبات شرعيتها وأهليتها وضمان استمرار تحكمها وأصبحنا نرى قبائل بأكملها تعلن الانتماء لجهات وأحزاب سياسية دون اعتبار للتعددية السياسية وحرية الفرد في الاختيار والانتماء في اتجاه يقود لإشاعة روح القطيع وسط المجتمع ، وأصبح الوصول للمناصب الدستورية والتنفيذية يخضع للمحاصصة والتوازنات القبيلية ذلك أن النخب المفترض طليعيتها فشلت في بناء الدولة القومية الحديثة المتماسكة واجتراح مشروع وطني.
على أن التمكين للنظام القبيلي والتأسيس لاستمرار صيرورته وتحكمه في مجتمعات الأطراف وعصيانه على التغيير قد ساعد فيه قانون الإدارة الأهلية الذي سنه الاستعمار الإنجليزي في عام 1922 م لتسهيل حكم البلاد والسيطرة عليها وتقليل الاحتكاك مع السكان إضافة إلى كبر مساحة السودان وفي نفس الوقت تقليل النفقات الإدارية، وقد اعتمد نظام الإدارة الأهلية على مشائخ القبائل الذين توارثوا الحكم في سلالاتهم واحتكروا مشروعيته وذلك للقيام بمهام الإدارة والتقاضي وحفظ الأمن في مناطقهم، وقسم البلاد إلى مناطق إدارية قبيلية سهلت على المستعمر إدارة البلاد والإبقاء على تخلفها الاجتماعي مع تعمد عدم نشر الوعي والتنمية البشرية إلا بالقدر الذي يخدم مصالح المستعمر وكرس لخلق نمط النخبة التابعة ، الموالية والمشبعة بنمط تفكير المستعمر ، ذلك انه لم يكن من أهداف وسياسات المستعمر تفكيك المؤسسة القبيلية وتذويبها في المجتمع الكبير إلا إذا شكلت خطراً هدد مصالحه بصورة مباشرة ، بل كان تذكية النعرات والصراعات القبيلية والاعتماد على سياسة فرق تسد والكيانات المقفولة ( قانون المناطق المقفولة ) في جبال النوبة وجنوب السودان واحدة من سمات وأدوات الاستعمار الإنجليزي، لذلك كانت الإدارة الأهلية التي تم التقنين لها رأس الرمح في الإبقاء على المؤسسة القبيلية ونمط حياتها في مجتمعات الأطراف والمساهمة في الإبقاء على الواقع المعاش في معظم مناطق السودان الطرفية، وما يحدث اليوم في دار فور من توترات أعادت إنتاج المشاعر القبيلية وخطاب الكراهية والنعرة العنصرية بصورة مكثفة من خلال ملكية الأرض وديار القبائل ومشكلة الكنابي في الجزيرة وإلى من تؤول الخرطوم ، كنموذج.
على أن دولة ما بعد الاستقلال لم ترضخ لهذا الواقع كلياً ، بل كانت هناك محاولات لمقاومته واختراقه, ولعل أبرز محاولات اختراقه تمثلت في قيام حكومة إنقلاب مايو في بداية السبعينات من القرن الماضي، ومن خلال طرحها للحكم الشعبي المحلي بإلغاء نظام الإدارة الأهلية المعمول به منذ الفترة الاستعمارية وتطبيق نظام الحزب الواحد الشمولي والاقتصاد الموجه والإدارة الجماهيرية ، وقامت بتصفية أجهزة الإدارة الأهلية ومؤسساتها بما فيها من محاكم عمد ونظارات، في محاولة كانت تهدف في النهاية لخلخلة المؤسسة القبيلية وتذويبها في مؤسسات المجتمع المدني الحديث، وذلك باستبدالها بالمجالس الشعبية التنفيذية للمديريات واستبدال أجهزة الإدارة الأهلية بمجالس الحكم الشعبي المحلي واستبدلت المحاكم الأهلية بمجالس القضاة.
استمرت هذه التجربة لحوالي العقد من الزمان لم يتمكن فيه النظام الجديد من الإحلال محل نظام الحكم القبيلي العشائري السائد في معظم مناطق السودان في تلك الفترة وخاصة في المناطق الريفية ، ذلك أنه نتج عن إلغاء تلك الأجهزة فراغ إداري كبير اضطر حكومة مايو لإعادة أجهزة الإدارة الأهلية وإعادة الاعتبار للمؤسسة القبيلية والاعتراف بها من جديد وتخصيص وظائف رؤساء المحاكم الريفية وحفظ الأمن وقيادة المجتمع المحلي من جديد لزعماء القبائل من عمد ونظار وغيرهم.
الواقع أن تجربة حل الإدارة الأهلية وإحلال مؤسسات الدولة الحديثة مكانها على الرغم من عدم نجاحها ، إلا أنها أحدثت هزة كبيرة في المجتمع الريفي القبلي، ففي تلك الفترة حدثت متغيرات كثيرة ، اجتماعية واقتصادية وثقافية ، وظهرت كثير من المفاهيم الجديدة والشعارات التي تدعوا للانعتاق من أسر القبيلة والقبيلية وأنداحت حركة الوعي نسبياً لدخول التعليم لهذه المناطق ، كما انتشرت أجهزة نقل الثقافة المسموعة ووصل البث الإذاعي إلى كثير من المناطق في دارفور على سبيل المثال، وتملك السكان قيم التعاون والحركة التعاونية ويلاحظ حتى الآن وجود الكثير من اللافتات في مختلف المدن وأحياناً القرى توضح مقار الجمعيات التعاونية ومنشآتها المندثرة وغيرها من الشعارات والإدارة الشعبية الذاتية غير المتوارثة وعرف الناس شكلاً من أشكال اختيار أو انتخاب قادتهم المحليين ، وظهر قادة جدد في المجتمعات المحلية .
وعلى الرغم من الزخم الكبير الذي صاحب تلك التجربة إلا أن عوامل عدم نجاحها واستمراريتها كانت كامنة في ثناياها، ذلك أنه لم يعد لها الإعداد السليم، سوى من الناحية النظرية أو التطبيقية ، وكانت هتافية في حيثياتها وانقلابية في تطبيقاتها ، واستخفت بالمؤسسة القبيلية ذات الجذور التاريخية العميقة ، كما استهانت بتجربتها وأدواتها ونفوذها المتوارث على المجتمع المحلي وأجهزة إعلامها، ولم تراعي المجتمع المحلي والانتشار الواسع للفقر والجهل والقبول القدري للتراتبية الاجتماعية ، كما أن النسبة العالية من الأمية لم تتح للتجربة الجديدة الحصول على الكوادر المحلية اللازمة لتسيير الأمور وإقناع السكان المحليين بالانخراط فيها وإعطاء ولائهم لمؤسسات الدولة الحديثة.
إن الذين أسسوا لتلك التجربة، وحاولوا عبرها الانتقال لنظم جديدة يتم فيها التغيير الكامل للمجتمع بكل تفاصيله ، كان في بؤرة اعتقادهم، أن القوي التي يقع على عاتقها إحداث عملية التغيير الكبير وتأمين وظائف القيادة والتسيير والتوجيه والإدارة للمجتمعات والأفاق الجديدة في مخيلتهم ، تلك القوة يمكن إنشاؤها أو خلقها بقرار ، هكذا، دون خطة مدروسة أو كأنما يزرعون أفكارهم في أرض بور ويتعاملون مع مجتمع خام ينتظرهم لتشكيله ، ذلك أن بناء وتحديث المجتمعات يحتاج إلى جهود جبارة وخطط وبرامج متكاملة، بإرادة توفر كل أسباب النجاح، ليلقى الواقع الاجتماعي المستهدف القبول والاستيعاب ، والتصالح مع الواقع والتنظيم الاجتماعي القديم و المسيطر تاريخياً، وتحويله إلى تنظيم اجتماعي جديد و متطور يتولى عملية القيادة والتوجيه، بدلاً من معاداته ومحاولة نسخه بقرار، وقد يحتاج ذلك عشرات السنين.
وعلى الرغم من تعدد العناصر التي شكلت الواقع الاجتماعي الحالي في المناطق الطرفية بالسودان إلا أن ما كرس للتماسك البنيوي والهيكلي للمؤسسة القبيلية، وإفرازاته المختلفة التي حفزت عملية استمراره وتوطنه ثقافياً ونفسياً ووظيفياً حتى الآن يمكن أن يجد تفسيره إلى حد بعيد في حيثيتين هما :
الضعف العضوي في تركيبة وأداء المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية على مستوى الدولة من حيث المبدئية والقدرة على الفعل والتفاعل مع المجتمع المحلي, خلق وضع تتعايش فيه عدة متناقضات يلخصها ويبرزها الانتماء المزدوج إلى تنظيمات مدنية رسمية مثل مؤسسة الرئاسة والوزارات والمؤسسات الاتحادية وفي نفس الوقت الانتماء لتنظيمات قبيلية تقليدية غير رسمية مثل الكيانات القبيلية والجهوية .
أيضا ضعف حجم التطور والتحول على المستوى الاقتصادي من حيث الخدمات التعليمية والصحية ونقاط الالتقاء الاجتماعي الحديثة وعلى مستوى البنيات التحتية بما يؤدى لتخطي وتجاوز نمط الاقتصاد المعيشي والرعوي الذي ظل محافظاً على وجوده بالاستناد إلى الهياكل التقليدية للمؤسسة القبيلية.
ما أود طرحه في خواتيم هذه المقالة محاولة لابتدار النقاش حول جذور الصراع المجتمعي الذي تدور رحاه الآن وهو صراع ذا طبيعة مركبة سياسية واقتصادية وثقافية ودينية، بأبعاد داخلية وخارجية ولها جذورها التاريخية وقد أدت هذه الطبيعة المركبة إلى زيادة التعقيدات في واقع المناطق الطرفية المعقد أصلا .
إن افتقاد السلطة الحاكمة في السودان للشرعية الدستورية وسيطرة الحكم العسكرى الممنهج بالشمولية في السودان لأكثر من نصف قرن من الاستقلال الوطني جعل علاقة الشعب بالنظام الحاكم محدودة وتكاد تنحصر في الفئات الانتهازية ذات المصالح الضيقة والتي تشكل فئة المثقفين الانتهازيين رأس الرمح فيها تميزت هذه الأنظمة بغياب أسس الطبيعة الديمقراطية للسلطة السياسية فيها كما أنها لم تكن تعبأ بأشياء أساسية في حياة الشعب مثل الإقتصاد والخدمات مثل الصحة والتعليم ومياه الشرب النقية والتنوع الثقافي أو العرقي أو الديني أو العشائري ، وظل تعامل السلطات مع هذه المسائل تسلطيا في حالة الرفض لشرعية النظام السياسي وأدى ذلك دوما لردود فعل عنيفة ضد النظام السياسي مثلما حدث في ثورة أكتوبر 1964 وإنتفاضة أبريل 1985 وأخيرا ثورة ديسمبر 2021 وفي أحيان كثيرة كان السلاح هو الفيصل بين السلطة والحركات السياسية المعارضة كما حدث في الحرب التي كان نهايتها فصل الجنوب على يد الاسلاميين في فترة الانقاذ المشئومة أو الحركات الجهوية ذات الحواضن القبيلية في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة.
الواقع أنه طيلة فترات انظمة الحكم في السودان ، ظلت هناك فجوة فشلت في ملئها كل الحكومات المتعاقبة ، المدنية منها والعسكرية الديكتاتورية ، الا وهي فجوة التباعد والتعارض بين الإنتماء الفكري والثقافي الرغبوي للشعب وللامة والإنتماء للأنظمة الحاكمة.
فإذا أخذنا مثال بحكومة الفترة الإنتقالية الحالية في السودانية بتركيبتها المعقدة وغير المتجانسة ، فإن هذا التباعد يظهر جليا ، ذلك أن الشعب الذي قاد ثورة سارت بعظمتها وتفردها الركبان ، هذا الشعب رفع شعارات ثورته في خلاصة (حرية، سلام وعدالة ) ومدنية خيار الشعب وذلك وفق الإرادة السياسية للدولة ، فيما سارت مكونات الحكومة الإنتقالية في مسار مختلف اتخذ الاصلاح السياسي وترميم نظام الانقاذ والتبعية للمحاور الدولية في سياساته الخارجية وهذا التباعد الثقافي والأيديولوجي والسياسي ترافق مع حالة الإحباط الشعبي العام جراء فشل السلطة السياسية الحاكمة في إدارة قضايا الوطن المحلية التي قامت من أجلها الثورة ، و الفشل في إنتهاج سياسة خارجية متوازنة تعمل من أجل المصالح الوطنية العليا بعيدا عن التبعية للمحاور المختلفة كما هو الحال.
وبصورة عامة ظلت هناك عوامل أخرى مصاحبة لأنظمة الحكم التي مر بها السودان منذ استقلاله وحتى الآن ، وشابت هذه العوامل علاقة علاقة السلطة السياسية بالشعب، وهي غياب علاقة تعاقدية واضحة وملزمة وفي نفس الوقت عادلة، يضاف إلى ذلك غياب البعد المؤسسي للعلاقة التعاقدية، ما يجعلها غير مستمرة أو مستقرة؛ بسبب فردية السلطة السياسية أو بسبب تغير طبيعة النظام السياسي أو تغيير الارتباطات الخارجية للقوى الفاعلة في السلطة و المجتمع .
وتخطر بالبال دوما فكرة أن نشؤ السودان نفسه كدولة تم بشكل قسري في فترة الاستعمار الانجليزي ،قد أدى إلى استقطاب مجتمعات غير متجانسة بل متصارعة أحياناً عرقياً أو طائفياً أو عشائرياً أو مذهبياً، وهذا التكوين أو النشوء القسري ، جعل السودان مهيأً تلقائياً للصراعات عند توفر أجواء سياسية واجتماعية اقتصادية معينة .
فهل يا ترى يفتح هذا الاستنتاج الباب امام تشعب الأسئلة عن مدى فشل السودانيين في تكوين هوية سودانية موحدة تلبي متطلبات واحتياجات الامة بعيدا عن أزمة القبيلية والجهوية وتعيد صياغة المثقف وفق مشروع وطني ينتزعه من براثن الفصم و الاغتراب الثقافي الموسوم بالارث الاستعماري ويتجه به نحو التماسك والاندماج الشامل ويصبح أكثر التصاقاً بالهوية الثقافية والحضارية للأمة السودانية كما فشلوا تماما في جعل التنوع والتعدد في المجتمع مصدر قوة.
إن المنهج الذي تتبعه بعض من مجموعات التي تطلق على نفسها قوى المهمشين ومحاولة الهروب إلى الأمام بإلباس الأزمة الحالية لبوساً غير لبوسها وبث خطاب الكراهية والعنصرية واعلاء الانتماء للقبيلة والجهة على الانتماء الوطني والايحاء بهيمنة العنصر النيلي على مقدرات الدولة وامكاناتها لصالح الشريط النيلي لا يعدو إلا أن يكون محاولات يائسة لتعطيل الانتقال من مجتمع القبيلة وسطوتها إلى المجتمع المدني الحديث الذي نادت به ثورة ديسمبر المجيدة التي سوف تؤسس لشرعية مفاهيمها وصيرورة وعيها الجماهيري بإرادتها الحرة ومن خلال الصراع اليومي ضد تخلفنا المجتمعي التاريخي .
وكما كانت النخب السياسية عاملاً من العوامل الرئيسة في صنع الصراعات أو تسويتها . فقد أدت النخب السياسية أو العسكرية دوراً في ابتعاد الدولة السودانية سياسياً وثقافياً عن مجتمعاتها المحلية. حيث مارست دوراً في إيجاد طبقة ثقافية وسياسية بعيدة عن الطبيعة الثقافية والحضارية الذاتية للمجتمع ، ما أوجد بيئة نفور ما بين السلطة السياسية الحاكمة من جهة، وما بين أفراد المجتمع ذوي الارتباط العفوي والتلقائي مع ثقافتهم المحلية في مجتمعهم الصغير خاصة في أطراف السودان . كما أن هيمنة الفردية والمطامع السياسية والاقتصادية على بنية الدولة والنظام السياسي أنتجت فساداً مالياً وإدارياً وسياسياً، ما شكل إحباطاً وغياباً للعدالة وانحرافا عن أسباب دولة المواطنة التي يعيش فيها الجميع بتساو في الحقوق والواجبات، وهي دولة المؤسسات والفصل بين السلطات، وهي الدولة الديمقراطية التي يتم تداول السلطة فيها بسلمية مطلقة بقوة وملكية الإرادة الحرة للجماهير عبر الصناديق الانتخابية، أما النخب السياسية والثقافية المرتبطة مصالحها بالمجموعات القبيلية والجهوية وخاصة في المناطق الطرفية المختلفة فهي الأخرى تعد بمثابة قادة التوجيه والتأثير أو النفوذ في سلوك المؤسسات القبيلية السياسي، ومن هنا فإن طبيعة مواقفها وسلوكها يعمل ضد نجاح الانتقال المدني الديمقراطي ويخدم منع تفكيك وتذويب المؤسسات القبيلية بكل الاشكال والطرق .
ما تم مناقشته حول المؤسسة القبيلية كجيب في التشكيلة والبنية الاجتماعية داخل الدولة السودانية ومدى قدرتها على التأثير في المجتمع المحلي وإخضاعه لشروطها ، يمكن أن يكون مدخلاً لدراسات إضافية من قبل الباحثين في علم الاجتماع لإثراء ومناقشة ما بدأته هذه المقالة من مداخل ، وذلك من خلال الحركية الاجتماعية في سياقها العام، بمختلف محاورها وأبعادها وامتداداتها المحلية والإقليمية والدولية، ودورها المفترض في عملية التغيير الكبير والتحول إلى الحياة المدنية الحديثة، بكل شروط هذه الحركية، بما فيها من تطور اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي، وذلك من خلال علاقتها المفترض حتميتها بالتخطيط التنموي، بما ينطوي عليه من عمليات إحلال وإبدال وإدماج وهوية في مجتمعات الأطراف بالسودان، لعل ذلك يفضي لإجابة حاسمة لمدى انسجام إسقاط مفاهيم التهميش والمهمشين ومصطلح صراع المركز والأطراف على نوعية الصراع في المجتمع السوداني بصورة عامة ،وهل يسمح جملة ما تم إثارته من نقاش بوصف هذه المناطق أنها مهمشة أم أنها مناطق أضحت على الهامش بفعل العناصر المتعددة والمتداخلة التي عرضنا لها؟ كل ذلك في سياق يؤطر لنقاش يسهم في إبراز واقعية جديدة في قالب وإطار يعبر عن رؤى وآفاق متقدمة لاستنهاض المجتمع ووضع قطار التغيير الكبير في مساره الصحيح خاصة بعد إسقاط تجربة الإسلامويين الفاشلة والمؤودة في السودان عقب ثورة أشرنا لها بأنها ثورة الوعي المفاهيمي والآمال العريضة رغم ما تتعرض له من متاريس مضادة واستنفار لكل أدوات تكريس التخلف والابقاء على سودان حاول صنعه خفافيش الظلام .