في تحول دراماتيكي، بعد ورود أنباء عن فوز الرئيس التشادي المخضرم إدريس ديبي بولاية سادسة في آخر النتائج المؤقتة في 12 أبريل2021 بنسبة 79.3٪، تم إعلان وفاته في 20 من الشهر نفسه .وبحسب المتحدث باسم الجيش جنرال عظيم بيمرانوا أغونا، فقد تم مهاجمة الجيش من قبل رتل من المتمردين الذين كانوا يتقدمون باتجاه العاصمة نجامينا .ووفقًا لأحد التقارير، فقد تعرض الجنود للهجوم من قبل مسلحين من جبهة التغيير والوفاق في تشاد التي وصل مقاتليها من قاعدتهم في ليبيا ودخلوا الأراضي التشادية في 11 أبريل. كان هدفهم المعلن هو تخليص البلاد من حكم ديبي الذي استمر في السلطة 31 عامًا.
ويزعم قائد التمرد محمد مهدي علي أن ديبي قاد بنفسه المعركة يومي الأحد والإثنين (18 و19 أبريل)، حيث كان القتال يدور في وسط غرب البلاد، بالقرب من نوكو في إقليم كانم. وبحسب إفادة الجيش والرواية الرسمية، فقد أصيب ديبي في ساحة المعركة يوم الأحد، ثم نُقِل بالطائرة المروحية إلى العاصمة نجامينا.وعلى الفور تم الإعلان عن تعليق الدستور وحل البرلمان والحكومة على أن يتولى إدارة شئون الدولة مجلس عسكري انتقالي لمدة 18 شهرًا، بقيادة نجل الرئيس الراحل الجنرال محمد إدريس الشهير بـ”محمد كاكا”.ويعد الجنرال محمد إدريس، البالغ من العمر 37 عامًا، أحد قادة القوات التشادية الكبار الذين يساعدون بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في شمال مالي. لعله مشهد يكرر أحداث الكونغو الديموقراطية حينما خلف جوزيف كابيلا والده لوران كابيلا، وهو اتجاه واضح في النظم السياسية الإفريقية يقوم على مفهوم العائلية السياسية.
تداعيات رحيل الرئيس ديبي
ثمة حالة من عدم اليقين إزاء ظروف وفاة ديبي وهل ثمة محاولة انقلاب من داخل الجيش. ويمكن اعتبار قرار الجيش تسليم السلطة لابن ديبي بدلاً من اتباع الأحكام الدستورية السارية يرقى إلى حد الانقلاب العسكري. وقد رفضت قوى جبهة التغيير والوفاق هذا القرار باعتبار أنتشاد ليست ملكية، وأنه “لا يمكن أن يكون هناك انتقال للسلطة داخل العائلة الواحدة”. ولعل ذلك يثير مخاوف من العنف في المرحلة القادمة.والسؤال الرئيسي هنا هو ما إذا كان الجيش سيبقى مُخلِصًا لابن ديبي الجنرال محمد كاكا ويواصل الجهود لصد المتمردين المتقدمين باتجاه العاصمة؟. ربما يستجيب التشاديون الذين سئموا من حكم ديبي طيلة عقود ثلاثة لدعوات التغيير.عندئذٍ سوف تكون فوضى عارمة تنتقل لدول الجوار الهشة وذلك هو السيناريو الكارثي.
لدى الأمم المتحدة حوالي 1800 موظف في تشاد، كما كان ديبي، القائد العام السابق للجيش، حليفًا رئيسيًا لفرنسا في الحرب ضد التطرف الإسلامي في إفريقيا، حيث استضاف قاعدة عملية برخان للجيش الفرنسي وقدم القوات الحيوية اللازمة لجهود حفظ السلام في شمال مالي. وعليه فثمة تداعيات مهمة ترتبط بالوجود الدولي في تشاد ومنطقة الساحل. لكن يظل سؤال التغيير بالنسبة لرأس الدولة في كثير من البلدان الإفريقية مُلِحًا وله مغزى كبير. فالرئيس يأتي على فوهة المدافع ولا يرحل إلا من خلالها.وصل ديبي إلى السلطة لأول مرة في عام 1990 عندما أطاحت قواته المتمردة بالرئيس السابق حسين حبري، الذي أدين لاحقًا بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في محكمة دولية في السنغال.وعلى مر السنين، نجا الرئيس ديبي، بمساعدة فرنسية، من العديد من التمردات المسلحة وتمكن من البقاء في السلطة حتى التمرد الأخير الذي قادته جبهة التغيير والوفاق في تشاد. ويعتقد أن المتمردين قاموا بالتسلح والتدريب في ليبيا المجاورة قبل عبورهم إلى شمال تشاد في 11 أبريل 2021.
موت السياسة والمعارضة المسلحة
على الرغم من ضعف المعارضة السياسية وانقسامها في تشاد بما يشبه حالة “موت السياسة”، إلا أن هناك العديد من قوات التمرد المسلح. ولعل أبرز جماعات المعارضة المسلحة في تشاد اتحاد قوى المقاومة، وهو تحالف كان مقره في ليبيا وهدفه هو الوصول إلى العاصمة نجامينا من أجل الإطاحة بالرئيس إدريس ديبي و”تشكيل حكومة انتقالية توحد كل قوى البلاد”. بيد أنه في عام 2019، تدخلت القوات الفرنسية وأحبطت هذا المخطط الانقلابي. ومن المعروف أن هذه الحركة المتمردة تتكون بشكل أساسي من مقاتلي الزغاوة، أي نفس الجماعة العرقية التي ينتمي إليها الرئيس الراحل ديبي، وكان يديرها تيمان إرديمي قبل إلقاء القبض عليه، وهو ابن شقيق الرئيس وكان يعيش في قطر. وقد حاول أولاً الإطاحة بعمه في عام 2008، ومرة أخرى في عام 2009 بعد تشكيل اتحاد قوى المقاومة.
ومن الجماعات المتمردة التشادية الأخرى، جبهة التغيير والوفاق في تشاد، ومجلس القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية واتحاد القوى من أجل الديمقراطية والتنمية، الذي انتقل إلى جنوب ليبيا بعد طرده من دارفور في غرب السودان من قبل الخرطوم في عام 2010. واذا كانت هذه الجماعات تتفق على الاستراتيجيات التي يجب تبنيها، فهى منقسمة على أسس عرقية وطموحات شخصية، بل وقد تنافست ضد بعضها البعض. وعادة ما ينخرط مقاتلوها في أشكال مختلفة من الإتجار غير المشروع ويعملون أحيانًا كمرتزقة للميليشيات الليبية .وعلى الرغم من أن الوضع الأمني في تشاد كان يبدو أنه قد استقر، إلا أن دعوة ديبي للمساعدة من فرنسا تُظهِر أن الجيش التشادي، الذي يتم تصويره غالبًا على أنه قوي، يعاني أيضًا من نقاط ضعف.
معضلة الرئيس ديبي والحرب على الإرهاب
يقول المثل السائد “عدو عدوي صديقي”. غالبًا ما جسد الرئيس الراحل إدريس ديبي ذلك، حيث كان أعداؤه هم نفس أعداء الغرب. بالنسبة للدول والأفراد على حدٍ سواء، ليس من الممكن دائمًا اختيار أصدقائك – ومن هنا جاء التعاون الغربي مع تشاد بمقتضى الضرورة مع غض الطرف عن نظام حكمه المستبد. لقد كان ديبي يشكل معضلة سياسية للحكومات الغربية التي ما فتئت تدعو لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. إنه حليف قوي ضد جماعات التطرف الإسلامي العنيف. كما يعد جيشه الوطني الأفضل في منطقة غرب إفريقيا، بفضل المساعدات الفرنسية السخية. ومن المعروف أن تشاد تستضيف قاعدة عسكرية فرنسية كبيرة، كما يوجد بعض الأفراد العسكريين الأمريكيين. وقد تمكن الجيش التشادي، بالتعاون مع قوات من نيجيريا وجنوب إفريقيا من طرد جماعة بوكو حرام من جزء من ولاية بورنو النيجيرية.
على أن الخطر الأكبر على الاستقرار السياسي ينبع من الداخل المضطرب. كان الإحباط الشعبي منتشرًا بالفعل قبل جائحة فيروس كورونا، مما يعكس مستويات المعيشة المتدنية والفرص الاقتصادية المحدودة والحريات الشخصية المقيدة. ومن المرجح أن يؤدي التأثير المستمر للركود الناجم عن الوباء إلى تفاقم الإحباط العام في فترة ما بعد رحيل ديبي. لذلك، فإن خطر حدوث اضطرابات اجتماعية واسعة النطاق مرتفع، لكن لا يستبعد أن يستخدم المجلس العسكري الانتقالي القوة لاحتواء الاحتجاجات المناهضة للحكومة، وهو ما يعني أن الاستقرار العام في المنطقة لن يتأثر وذلك بفعل دعم الشركاء الغربيين.
على أن الواقع الجيوسياسي لتشاد يضفي بعدًا آخر لميراث مرحلة ما بعد ديبي. وعليه ينبغي فهم تطورات الأحداث في إطار السياق العام، حيث أن تشاد دولة حبيسة محاطة بمناطق مختلفة تمثل بؤرًا ملتهبة للتوتر والصراع، مثل جمهورية إفريقيا الوسطى ومنطقة البحيرات التي تضم الكاميرون ونيجيريا والنيجر وليبيا ودارفور بالسودان. ويمثل التنقل معضلة كبرى في تشاد لعقود طويلة من أجل الوصول إلى الأسواق والتبادل مع البلدان المجاورة، وكذلك حركات الترحال والنزوح الداخلي القسري وتحركات اللاجئين أو العائدين. وطبقًا لتقديرات نوفمبر 2020، نزح ما يقرب من نصف مليون شخص داخليًا في تشاد. ويُعزِى ذلك بالأساس لانعدام الأمن المرتبط بالجماعات المسلحة غير الحكومية، وتغير المناخ والعوامل البيئية، بالإضافة لعمليات الترحيل من ليبيا.
آفاق المستقبل
من المتوقع أن يؤدي رحيل الرئيس ديبي إلى تردي الوضع الأمني خلال الفترة القادمة، نظرًا لوجود مجموعة من التهديدات، بما في ذلك الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية والتوترات العرقية. لقد تم إغلاق حدود تشاد مع ليبيا في عام 2019، لكنها لا تزال مليئة بالثغرات؛ حيث أعطى الصراع الأهلي في ليبيا الجماعات المتمردة الفرصة لإعادة تجميع صفوفها دون مراقبة ذات معنى، مما يشكل تهديدًا لكل دول الجوار. كما أن الاشتباكات الطائفية العنيفة مستمرة بين رعاة الماشية من جماعة الزغاوة العرقية والمزارعين من جماعة الوداي في شرق تشاد، على الرغم من الجهود الحكومية للسيطرة على العنف. ومن المرجح كذلك أن يحاول الجيش الوطني احتواء الاضطرابات في هذه المنطقة، حيث يواجه تهديدات أمنية أخرى، بما في ذلك تلك التي تشكلها جماعة بوكو حرام، التي تنطلق من نيجيريا وتنشط في منطقة بحيرة تشاد. وفي مارس 2020، قتلت جماعة بوكو حرام ما لا يقل عن 92 جنديًا تشاديًا في هجوم عنيف اعتبر الأكثر دموية من قبل هذه الجماعة في تشاد. وردًا على ذلك، نفذت القوات التشادية هجومًا كبيرًا ضد بوكو حرام، وطاردت عناصر من الجماعة في كل من النيجر ونيجيريا. ومع ذلك، استمرت الهجمات المتفرقة من قبل بوكو حرام منذ ذلك الحين، ومن المرجح أن تستمر طوال مرحلة ما بعد ديبي.
وعلى أية حال، فإنه على الرغم من ذلك الوضع الأمني السيئ، لا يزال الجيش التشادي من أقوى جيوش المنطقة ومن المرجح أن يظل مواليًا لخليفة الرئيس الراحل إدريس ديبي؛ مما سيدعم الاستقرار السياسي وبقاء النظام وإن كان غير جلده. ولعل الشراكة الاستراتيجية التي يمثلها الجيش التشادي لكل من فرنسا والدول الغربية في جهود محاربة الارهاب في منطقة الساحل تؤكد هذا الاتجاه.