من أكثر التعابير توصيفاً لـ”الحالة السياسية” المضطربة عندما تفوق حد تصورات المعقول ذلك الذي التصريح الشهير للسياسي المرموق والكاتب الصحافي الساخر “صاحب الجمرات” الأستاذ محمد توفيق، الذي كان أحد أبرز الرموز في الساحة عقب انتفاضة أبريل 1985 والتي تولى فيها وزراتي الإعلام والخارجية إضافة إلى نائب رئيس الوزراء إلى الحقيبة الأخيرة عن الحزب الاتحادي الديمقراطي، فعقب استقالة مدوية تقدم بها من منصبه على خلفية مماحكات سياسية داخل الائتلاف الحاكم حينها لم يحتملها، علّق بسخرية رداً على تساؤلات الصحافيين عن أسباب استقالته بقوله “خرجت من الجوطة”!!
(2)
لا أشك أن الأستاذ الراحل محمد توفيق كان سيتراجع عن ذلك الوصف لو قُدر له أن يشهد ما يكابده الشعب السوداني اليوم في خامس مرحلة انتقالية عقب ثورة ديسمبر المجيدة من حالة سيولة سياسية واضطراب وهرج ومرج غير مسبوق في كل تاريخ الفترات الانتقالية التي شهدتها البلاد على مدار العقود السبعة الماضية، ولربما لزمه الاعتذار حين يقارن البون الشاسع بين مستوى الأداء السياسي والتنفيذي المتميز في مجمله في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، والمستوى المتواضع للغاية الذي يسبغ أفعال وممارسات الطبقة السياسية الحاكمة اليوم على امتداد طيفها بمكونيها العسكري والمدني، ولا شك أن ذلك يعود بالأساس إلى أن تلك الفترة أدركت بقية من الشخصيات العامة ذات بصيرة وحكمة وكفاءة ومكانة قيادية واحترام وسط الرأي العام.
(3)
لا يكاد يختلف اثنان اليوم أن البلاد تواجه تحديات مصيرية بالغة الخطورة على الصعد كافة لا تقتصر على تردي الوضع الاقتصادي بكل تبعاته الذي يمسك بخناق الجميع على نحو غير مسبوق، ومع ذلك تبقى مصاعب المعيشة بكل ضغوطها هي الشأن الخطر الذي يمكن تفاديه في ظل توفر خيارات بديلة ممكنة، إلا أن الخطر الحقيقي الأكبر الذي يهدّد كيان البلاد في وحدتها، واستقرارها، واستقلالها استمرار هذه الحالة من الهشاشة، والتخبط السياسي، والفراغ القيادي العريض، والفقر المدقع للرؤى والأفكار والبصيرة، وانعدام الإحساس والاستعداد لتحمل المسؤولية، فضلاً عن التهريج الذي يُدار به الشأن العام على المستويات كافة، إلى درجة بات السؤال المطروح بإلحاح إن كانت الدولة السودانية تستطيع فعلا النجاة من هذا المصير المحتوم دون أن تتفتت وأن تتخطفها الأجندة الأجنبية التي يسوّق لها للمفارقة بسطحية شديدة لا تخلو من سذاجة بمكر السياسة الدولية من هم في أعلى هرم السلطة.
(4)
جاء اتفاق جوبا، بغض النظر عن التخفظات المثارة بشأنه، كسانحة فريدة في توقيت ثمين للعودة إلى منصة التأسيس لإعادة ضبط المشهد السياسي المضطرب على ساعة الجماهير و مطالبها الثورية الكبرى، التي أثبتت تجربة عام مضى من الحكم الانتقالي أنه أبعد ما يكون عن تحقيق حتى أدنى سقوفاتها، وشهد الناس كيف تواطأت الطبقة السياسية القديمة وحلفاؤها في المكون العسكري في التلاعب بالوثيقة الدستورية والالتفاف على حاكميتها، وعدم تنفيذ أغلب استحقاقاتها الملزمة لإكمال هياكل الحكم الانتقالي بما يضمن وجود مؤسسات فعّالة تضمن التوازن بين السلطات وتراقبها وتضبط أداءها، وتُرك الحبل على الغارب لمجلسي السيادة والوزراء بلا كفاءة ولا اقتدار، مع ضعف وتفكك الحاضنة السياسية المفترضة، وكانت النتيجة هذه الأوضاع السياسية البائسة.
(5)
ولذلك من الممكن لاتفاق جوبا إذا أُدير بمسؤولية كبيرة، وبسقوفات وطنية عالية، وبقيادة حكيمة تنظر لأبعد من عقد تحالفات ضيقة واقصائية أخرى أن يسهم في إعادة تأسيس الفترة الانتقالية على هدى مشروعية مؤسسية جديدة تضع في الاعتبار تلافي إخفاقات وفشل تجربة ما مضى من مرحلة الانتقال، وهو ما يستدعي أكبر من مجرد إدراج اتفاق جوبا في الوثيقة الدستورية التي ثبت عدم قدرتها على الصمود كمرجعية، إلى التوافق على دستور انتقالي جامع، مبني بالضرورة على أكبر توافق وطني ممكن بلا اقصاء، إذ لا يكفي مجرد توسيع الحاضنة السياسية لغرض التمثيل لا أكثر بل ليضمن المشاركة الفعالة، وهذا يقتضي أيضاً أن يكون الأساس في بناء هذه المعادلة الجديدة مجلس تشريعي يعكس أكبر قدر ممكن من التمثيل والمشاركة الفعالة لقوى المجتمع الحية، وبحكم دوره وصلاحياته سيكون بمثابة الحاضنة السياسية الحقيقية لبلوغ الفترة الانتقالية لغايتها. وبغير ذلك لن “نخرج من الجوطة”، أما عواقبها فلن تبقي ولن تذر.
خالد التجاني