من أراد ان يدرك حجم الضرر البليغ الذي حاق بالبلاد جراء التغييب المتعمّد للمجلس التشريعي الانتقالي، الضلع الثالث لمعادلة هياكل إدارة الفترة الانتقالية باعتباره عامل ترجيح لا غنى عنه لضمان توازن السلطات ومنع طغيان الحكومة بمكوني مجلسيها الوزاري والسيادي اللذين أصبحا يتقاسمان السلطة التنفيذية ويحتكران القرار بلا رقيب ولا حسيب، فليس عليه سوى متابعة وقائع تمرير الموازنة القومية المعدلة لما تبقى من العام المالي الحالي، وقراءة وتحليل مآلاتها المنذرة بذهاب ما تبقى من ريح الاقتصاد السوداني.
(2)
ويحار المرء إن كان أعضاء المجلس التشريعي المؤقت الذي أجازها الأحد الماضي في جلسة مسائية عابرة في زمن قياسي ربما لا يكفي حتى لمطالعتها، يدركون حقاً عواقبها الكارثية على السواد الأعظم من المواطنين، وستكون هذا بلا شك مصيبة، وإن كانوا لا يدركون وهو الأرجح، من واقع العجالة التي تم بها إجازتها فالمصيبة أعظم.
وهل درس مجلس الأمن والدفاع المهدّدات الأمنية والاجتماعية والسياسية على استقرار البلاد التي تشكلها هذه الإجراءات الجبائية قصيرة النظر؟، بالطبع لم يحدث وإلا لما جرى تعبئة وتشغيل هذه “القنبلة الموقوتة” تحت لافتة الموازنة المعدلة بهذه السهولة المثيرة للريبة اللهم إلا إذا كان تفجير الأوضاع في البلاد مقصوداً لذاته، وهو ما يلا يتوقعه ولا ينتظر حدوثه عاقل.
(3)
والواقع أن الريّب تحيط بهذه “الموازنة المعدلة” من أول يوم في إعدادها وحتى إجازتها، فقد ضرب عليها بحصار من السرية غير مسبوق ومنع شُركاء أصيلون في ترويكا الانتقال من التداول بشأنها إبان إعدادها أو حتى مجرد الإطلاع بصورة رسمية عليها بعد إجازتها، دعك من إفساح أدنى مجال لحوار مجتمعي حولها ليس فقط لعامة الناس بل حتى على مستوى الخبراء الاقتصاديين الذي يشكلون المجلس الاستشاري لرئيس الوزراء الذين اختارهم بنفسه.
(4)
أما ثالثة الأثافي فهي أن هذا الخطوة التي يُفترض أنها التطور الاقتصادي الأكثر أهمية وخطراً في برنامج الحكومة الانتقالية، ويمثّل أحد ركني أعلى سلم أولوياتها، ومع ذلك لم تجد مسؤولاً حكومياً واحداً ينبري للتعريف بالنموذج والمشروع الذي تتبناه، ولا لشرح أهدافها ولا للتبشير بها، سوى بضع تصريحات رسمية وردت مبتورة تحاشت تماماً الخوض حتى في ملامحها العامة ولم تقل جملة واحدة مفيدة، وهي سابقة إلى درجة تستحق أن تدرج في موسوعة غنيس للأرقام القياسية باعتبارها أول “موازنة بكماء” في تاريخ الموازنات في ظل إصرار الحكومة على التستر والتعتيم الذي ضربته حولها وكأنها ستظل سراً دفيناً، أو أنها تفتقر للمنطق والصمود أمام أي نقاش جادٍ حولها ولذلك تؤثر التغافل عنها.
(5)
أمر واحد يمكن التأكيد عليه بشأن هذه “الموازنة المعدلة” أن التعتيم الرسمي عليها لم يأت صدفة، ولكن تحتمه المعطيات التي فرضتها إلى درجة تجعل الحكومة غير قادرة للدفاع عنها لأنها ببساطة ليست تعبيراً عن مشروع سياسي وطني، ولا تجسيداً لنموذج اقتصادي تنموي صنعته إرادة سودانية خالصة، لا أحد يزعم انتفاء الحاجة الملّحة لبرنامج إصلاح جذري للاقتصاد السوداني وأنه فريضة غائبة لا غنى عنها ولا يمكن تفاديها، بيد أن الفارق كبير بين أن يكون مشروع الإصلاح الاقتصادي مستنداً على نموذج تنموي وطني ينتجه حوار مجتمعي سوداني حقيقي واعٍ ومدرك لآفاق هذا المشروع الرحيبة، وحريص على دفع استحقاقات هذا الإصلاح، ومستعد لتحمل كلفته الصعبة، وبين أن يكون مجرد استجابة صمّاء لاشتراطات قاسية ومجحفة أمليت على الحكومة من قبل أطراف أجنبية.
كيف ذلك؟ هذا ما نجيب عليه بإذن الله في وقت لاحق، ونواصل.